التطبيع مع دولة الأبارتهايد
ثمّة حقيقة لا يمكن لأي دولة عربية تطبع علاقاتها مع إسرائيل أن تتجاهلها، وهي أنها تشرّع أبوابها، وتغدق أموالها، وتعمّق تعاونها مع دولة أبارتهايد تتعامل مع عرب الـ48 مواطنين من درجة ثانية، ومع الفلسطينيين الذين تحتل أراضيهم رعايا لا حقوق مدنية لهم ولا حرية لتقرير مصيرهم، وتعمل على تأبيد احتلالها العسكري الأراضي الفلسطينية، مستخدمة كل أساليب السيطرة والتحكم وسياسات الإقصاء والفصل العنصري.
الكل بات يدرك أن القضية الفلسطينية لم تعد قضية العرب الكبرى، وأن الاهتمام العربي الرسمي والشعبي بها شهد تراجعاً في السنوات الأخيرة لعدة أسباب، في طليعتها الاضطرابات التي تعصف بدول المنطقة منذ اندلاع أحداث الربيع العربي في العام 2010، والتفكّك الهائل الذي طرأ على البنى العسكرية والاقتصادية والاجتماعية للدول المحيطة بإسرائيل، والأزمة الاقتصادية والصحية التي تعانيها شعوب المنطقة، الأمر الذي جعلها تنكفئ إلى الاهتمام بمشكلاتها الداخلية، والتركيزعلى معركتها ضد فساد أنظمتها السياسية. فاقم في هذا أيضا انسداد أفق الحل السياسي، وموت اتفاقات أوسلو، وتلاشي مشروع الدولتين لشعبين، وأربع سنوات من إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، التي دعمت مخطط اليمين الإسرائيلي لضم مناطق من الضفة الغربية، وبذلت ما في وسعها للقضاء على احتمال قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة، وسعت إلى تحويل القضية الفلسطينية إلى مسألة إنسانية تحل اقتصادياً، وليست مسألة شعب يدافع عن حقوقه في أرضه. ساهم في ذلك كله فشل كل محاولات المصالحة بين السلطة الفلسطينية وحركة حماس، والأهم عدم وجود رؤية فلسطينية بشأن كيفية التعامل مع التغيرات المتسارعة الناجمة عن عملية التطبيع والتداعيات على مستقبل مشروع الدولة الفلسطينية المستقلة، وفقدان الأمل لدى الجيل الفلسطيني الشاب بمستقبل أفضل.
منذ الإعلان عن اتفاقات التطبيع بين إسرائيل والإمارات والبحرين في أغسطس الماضي، وافقت الحكومة الإسرائيلية على بناء أكثر من 6205 وحدات سكنية جديدة في الضفة الغربية
لكن ذلك كله لا يبرر ما يحدث اليوم. من الصعب أن نقتنع أن المصلحة المشتركة الحالية بين إسرائيل والدول العربية المعتدلة في الوقوف في وجه النفوذ الإيراني في المنطقة، وضد تدخل إيران العسكري في سورية ولبنان والعراق، سواء بصورة مباشرة أو من خلال وكلائها، ونشوء تحالف إقليمي استراتيجي جديد بين هذه الدول وإسرائيل، هو الذي سيحمي أمن هذه الدول العربية واستقرارها. هل يصدّق مسؤولو دول الخليج أنه يمكنهم استبدال الدعم العسكري الأميركي لهم بدعم إسرائيل التي وحدها من بين دول المنطقة لديها سلاح نووي، ويمكنها أن تردع حصول إيران على سلاح نووي؟ ينبغي التذكير بأن إسرائيل التي تعتبر السلاح النووي الإيراني تهديداً وجودياً عليها لم تجرؤ طوال السنوات الماضية، على الرغم من كل التهويل الكلامي على القيام بأي ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية.
يبدو أن الخطر الإيراني تحول في دول الخليج إلى فزّاعة للترويج لتطبيع اقتصادي، وتسويق سياسة الانفتاح على إسرائيل. وتحت غطاء التعاون الأمني والعسكري، يجري تمرير اتفاقات تجارية ضخمة وشراء فرق رياضية واستثمار مئات الملايين فيها، وتشجيع السياحة بين إسرائيل ودولة الإمارات، بحيث أصبح مسموحاً للإسرائيليين زيارة أبوظبي ودبي من دون الحصول على تأشيرات، بينما مُنع اللبنانيون ومواطنو عشر دول أخرى من الحصول على تأشيرة زيارة.
يبدو أن الخطر الإيراني تحول إلى فزّاعة للترويج لتطبيع اقتصادي وتسويق سياسة الانفتاح على إسرائيل
المؤكد حتى الآن أن رئيس حكومة دولة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، يستغل عملية التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل للاستمرار في الضم الإسرائيلي الزاحف إلى أراضي الضفة الغربية، وفي سياسة القمع والتنكيل بالفلسطينيين هناك. منذ الإعلان عن اتفاقات التطبيع بين إسرائيل والإمارات والبحرين في أغسطس/ آب الماضي، وافقت الحكومة الإسرائيلية على بناء أكثر من 6205 وحدات سكنية جديدة في الضفة الغربية، ما يجعل 2020 العام الذي سجل أعلى نسبة بناء للمستوطنات اليهودية منذ 2012، وذلك بحسب حركة "السلام الآن" الإسرائيلية. ناهيك عن الاستمرار في سياسة هدم منازل الفلسطينيين، من بينها منازل جرى بناؤها بمساعدات قدمها الاتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من اتفاقات "أبراهام" ما يزال فلسطينيون أبرياء يقتلون بنيران القوات الإسرائيلية، ومن جديدهم علي أبو عليا ابن الثالثة عشرة من عمره الذي قتل بالرصاص الإسرائيلي، في أثناء مشاركته في تظاهرة ضد إقامة مستوطنة يهودية.
الوجه الحضاري المنفتح الذي تحاول إسرائيل اظهاره الآن من خلال تطبيع علاقاتها مع الدول العربية والإسلامية ليس سوى غطاء تمويهي للتغطية على حقيقتها دولة يهودية قومية عنصرية معادية للفلسطينيين والعرب. وكل ما عدا ذلك كذب على النفس.