التروتسكاوي الأخير مقاولاً للثورات المضادّة
يحدّثك عن خطورة اكتشاف بهجة النار في تاريخ الإنسانية، وعينه على سيجارة بعيدة أشعلها هناك غريبٌ لا يعرفه هو ولا أنت، ويطلب من الغريب سيجارةً، على أن يشعلها له أيضاً، ويعود سعيداً كأنّه سرق من عروة فستان حبيبة الغريب وردة عزيزة. يحدّثك عن الرسامة المكسيكية فريدا كاهلو كأنّه، مجازاً، كان من سنوات يتردّد إلى منزلها في أوقات غامضة بعد موتها بعقود، وكثيراً ما نام في مرسمها بعد وفاتها بسنوات، من خلال معارف مكسيكيين لاقاهم هناك في احتفالات السكّان المحليين من الهنود الحمر. يحدّثك عن سينما أميركا الجنوبية وموجة الأفلام الجديدة هناك، وعن مخرجي القارّة الفتية، لأنّه عاش هناك، كما يحكي، سنتين غامضتين من عمره في بوليفيا. أما لو دخل بك في الحكايات إلى باريس، حينما أشار لهم إلى صور فولتير ومن بجواره، جان جاك روسو، وغيرهما، وكيف وقف في وسط القاعة، وقال لهم، صارخاً، إنّ تطوّحات الشيخ ياسين التهامي بجوار حمّامات سيدنا الحسين تصل إلى الله مباشرة بلا واسطة أو وسيط أو صور أو متاحف أو جدران زجاجية قاتمة، ثم يتطرّق في الحديث إلى مارغريت دوراس في "العاشق" وأنّه لا يطيق ترجمات المصريين ولا العرب لها. وكي تعرف العاشقة الفرنسية على حق، وخصوصاً حينما تحترق بلهيب الشرق وناره، فلا بد لك من أن تقرأ "العاشق" لمارغريت، باللغة الفرنسية فقط، وغير ذلك هراء في هراء وعبط، وإذا حاولت أن تعقّب سيتركك ويمشي إلى جلسة أخرى قريبة، وفي المقهى نفسه.
بعد ذلك قد لا تراه شهوراً، ويعود إلى المقهى شاتماً كلّ الفلاحين، بمن فيهم خيرت الشاطر، في سنة المرحوم محمد مرسي، رغم أنّه، كما يحكي هو، كان ضيفاً عزيزاً على بيته يوم الجمعة، ورفع عنه الحرج في أمر الصيام والصلاة. ثم يأخذه الوجد لمقطع من ابن الفارض، ويعود إلى شتم باريس العائد منها، من 48 ساعة فقط، ثم يسألك عن الوقت، وهل ستذهب إلى مولد السيدة زينب، الليلة، فتذكُر له سبباً يمنعك، فيشتمك ويشتم كلّ فقراء الصعيد، ويأخذ سيجارة من غريب ويمشي.
مائدة مشاكسات متنقلة على قدمين، في المقهى والمشرب والندوة والمؤتمر والحافلة والحضرة والمولد والمظاهرة والنقابة، أي نقابة، وحتى في مشاهدة فيلم سينمائي في ملحقية ثقافية أو حتى في معهد غوته، حتى لو كان الفيلم عن بيرو أو غجر هنغاريا. وفي نهاية أي فيلم، سيأخذ ميكروفون القاعة اغتصاباً، وبعد مقدّمة بسيطة عن ثيمة الفيلم، وكيف أخطأ المخرج في اختياره زوايا لقطاته السينمائية أو جناية المونتاج على الماتيريال الخاص بالفيلم، يعلن للحضور الملابسات التي جعلته يلاقي مخرج هذا الفيلم بالذات في أحراج بيرو، أو كوبا. ثم ينتقل إلى عبقرية السينما الجديدة وعن كيفية انتقالها من توابيت السينما التسجيلية إلى الحواري الضيقة للبرازيل وأفريقيا وغاباتها، ثم ينتقل، بثقة مؤكّدة، إلى موت السينما الروائية كلها، بعد عقدين أو أكثر، كما ماتت الفلسفة على أيدي الأكاديميات العرجاء تحت راية (وإدارة) سلطويات العالم والشركات متعدّدة الجنسيات وكبار اللصوص وتجّار المخدرات والقتلة في "هوليوود" وأخواتها. أما لو كانت هناك سيدة جميلة في الصفوف الأولى للمائة مشاهد في القاعة الصغيرة للندوة المقامة للفيلم، فقد يتشبث بالميكروفون، سارداً بقية رحلاته إلى دول أميركا اللاتينية، لولا ذكاؤه المفرط في الملاحظة وإحساسه بالإيقاع.
أما بعد انتهاء الندوة الفعلية، وهي بمثابة فاصل لفتح الشهية فقط لبقية ليلٍ طويلٍ يمسك أطرافه بحنكة يُحسد عليها، فقد يتوجّه إلى بقية حفل للموسيقى الروحية في ساقية الصاوي، على أمل أن يلاقي مستشرقة إسبانية تسعى من شهور للتحاور معه في أمر ملوك مصر القديمة، ودائماً يتهرّب منها لأنه يشم منها رائحة صهيونية. فيما بعد، يعرف أهل الخصوص في الأكاذيب أنّ المستشرقة لم تصل إلى القاهرة، إلّا من أربعة أيام فقط. وفور دخوله ساقية الصاوي يخطف منها بوكيه الورد الصغير ويعطيه لعامل البوفيه، بعد أن يُفهمها أنّ المطرب الفلاني الذي جاءت بالورد له عمل مخبراً للأمن سنوات طويلة، وأنّها لن تعرف القاهرة ودهاليزها وليلها العجيب، إلّا على يديه. وفي اليوم الثاني، تسافر المستشرقة في مركب إلى أسوان، ومن أسوان تتوجه إلى مطار القاهرة رأساً.
وأخيراً عرفنا أنّه يسكن في بلد عربي منذ سنوات، ويذبح الخراف للأصحاب، وتأتيه أحدث الهواتف الذكية من الإمارات رأساً.