التحرّش وظاهرة الاستحماق الإرادي

27 فبراير 2021
+ الخط -

حين وجهت الفتاة "هـ ع" صفعتها على وجه الشابٍ المتحرّش، لم تكن تتخيّل أن الصفعة ستُرد إليها ممن يفترض أنه حصن العدالة. بدأت القصة قبل أشهر، حين ضبطت الفتاة شابا يمارس الاستمناء قربها داخل "الباص"، نهرته فلم يستجب، صرخت فانتبه من حولها وأمسكوه.

انتهت القضية أخيرا بأعجب حكم ممكن، فقد دانه القضاء المصري. الواقعة سليمة مائة بالمائة، لكن صدرت العقوبة بالسجن عاماً مع وقف التنفيذ! حيثيات الحكم تحمل مهزلة أكبر، إذ استند القاضي المستشار محمد هاشم، رئيس محكمة جنح الزقازيق، إلى تقديره الخاص بأن "ما لاقاه المتهم من إجراءات قبض وضبط وحبس احتياطي كفيلة بردعه، وعدم معاودتة ارتكاب مثل هذا السلوك"، علما أنه أمضى أقل من شهرين بهذا الحبس، حيث تم إخلاء سبيله في مطلع ديسمبر بكفالة ألفي جنبه فقط. وقالت المحكمة أيضا إنها استحضرت "غاية العقوبة علي الجاني فلم يبتغ منها الإيذاء ولكن كان يقصد الإصلاح والتهذيب".

إذن، لقد عانت الفتاة الشجاعة كل الآلام النفسية المترتبة على سردها الواقعة تفصيليا مرّات ومرّات بالنيابة والقضاء، وكذلك تحمّلت أسرتها الداعمة كل ضغوط المجتمع وسهامه، فقط لنصل إلى هذه النتيجة، ثم ما زال لدينا من يتنطّع متسائلا: ولماذا لا تذهب الفتيات إلى القضاء؟

ولنلاحظ أن هذه النتيجة المحبطة جاءت بقضية تشتمل على كل عوامل النجاح الممكنة، فالواقعة عليها شهود، وكذلك تم تصوير ما بعدها بالفيديو الذي تظهر به السائل على ملابس الجاني، وتم تحليله وثبت أنه السائل المنوي الخاص به، فما بالنا بمصير قضايا لا تتوفر فيها العوامل نفسها.

وكشف مسار القضية أيضا عن مدى انحطاط التضامن الذكوري الأعمى، كما بالحماس البالغ الذي أبدته نقابة أطباء الشرقية لدعم الطبيب، على الرغم من أنه، على أقل التقديرات، هذه ليست قضية مرتبطة بالمهنة. لم يقبض عليه لارتكابه خطأ طبيا على سبيل المثال لم يعرف أحد أنه طبيب أصلا إلا لاحقا، والمجني عليها طالبة في كلية الطب. بل إن بيان النقابة الأول، والذي ذكر زيارة وفد منها الطبيب الشاب، وتكليف محامي النقابة بالترافع عنه، اشتمل فقرة تطالب بوقف التحدّث على مواقع التواصل لمنح فرصة "لجهود الوساطة"، و"محاولة إيجاد حل بمساعدة الزملاء من حكماء ورواد الأطباء"، والمقصود هو الضغوط على الأسرة للتنازل، وهو ما لم تفعله تلك الأسرة المناضلة.

ثم جاءت محاولة التلاعب بتقديم شهادة طبية من مستشفى خاص، تفيد بأن الطالب مصاب بمرض الاستمناء اللاإرادي، وهو مرضٌ غير موجود في الوجود، فضلا عن أنه لو حدث ذلك، كما في الاحتلام في أثناء النوم، سيؤدّي إلى وجود السائل على الملابس السفلية، لا العلوية. هل تحرّكت يده لا إراديا أيضأ؟ حين تم تفنيد تلك الحجّة تم تطوير الكذبة، وصرّح شقيق الجاني للصحف إنه نسي سحاب بنطاله مفتوحا، ثم غرق في النوم ليستيقظ على صراخ الفتاة.

ولافت أيضا في التعليقات عدد الذكور الذين يكذّبون الواقعة لاعتبارها غير معقولة، بل إن المحكمة كيّفت التهمة لتصبح "ارتكاب فعل فاضح"، وليس جريمة "التحرّش"، وذلك على الرغم من أن وقائع التحرّش بكشف أجزاء من الجسد متكرّرة عالميا ومحليا، لكن بعضهم يعتقدون بمركزية ذواتهم، وغياب كل ما هو خارجها. في العام الماضي، حُكم على المنتج الأميركي البارز، هارفي واينتستين، بالسجن 23 عاما، بعد عشرات من بلاغات الاعتداء الجنسي، تضمّنت استمناءه أمام بعض الناجيات. وفي تقرير مطول نشرته "سي إن إن" بعنوان "لماذا يستخدم الرجال الاستمناء للتحرّش بالنساء"، نشهد قائمة تتضمن الصحافي مارك هالبيرن، والمخرج بريت راتنر. لحسن الحظ، لم يخبرهم أحد عن ذلك المرض اللاإرادي غير الموجود إلا في مصر!

ما حدث في القضية مرجعه رغبة في "الاستحماق" عمدا، حيث تتم محاولة حماية مذنب بإحاطته بسياجٍ من شعارات نبيلة. أسوار تتداعى كل يوم أمام ضربات الواقع، بفضل نساءٍ شجاعات، وأسر داعمة، وبفضل كل من يقاوم الحماقة والاستحماق، ولو بشطر تغريدة.