التحريم الديني في مواجهة الحريات
إذا كانت الأديان الوضعية (الأيديولوجيات) استمدّت قدسيتها من ارتباطها المزعوم بالعلوم، واستمدّت شرعيتها من إنجازات بشرية في نهاية الأمر، فإنها استعانت بآليات التقديس الديني من أجل ترسيخ مقولاتها وتحويلها إلى قوانين ملزمة للجموع البشرية. أما الأديان السماوية لم تكن في حاجة إلى أي استعارة من أجل شرعنة ذاتها، فهي استمدّت قدسيّتها من انبثاق هذه الأديان عن إرادة الله مباشرة، وتستمد شرعيتها من تعالي الله وقدرته الكلية على معرفة كل شيء، وآليات التقديس توجد عبر الأوامر والنواهي التي يفرضها الله على عبده التي جاءت بها الكتب السماوية. فهذه الشرعية، في جميع الحالات، تأتي من خارج المجتمع البشري، لتضبط سلوكه عبر هذه الأوامر والنواهي، وليس على الإنسان سوى طاعتها من دون نقاش والالتزام بها، وهو لا يحتاج إلى أن ينتج قوانينه في ظل وجود قوانين إلهية، وإلا فإنه يقع في المحرم ويخالف الأوامر الإلهية.
احتاجت الصيغة الإسلامية من تعميم الأحكام الدينية إلى تفاصيل الحياة الدنيوية إلى زمن ليس قصيراً، ولم تقع قضايا دنيوية كثيرة تحت وطأة الأحكام الدينية وتعميماتها. ويمكن القول إنه في التاريخ العربي - الإسلامي، ومع الشافعي تحديداً، جرى ترسيخ النص الديني بوصفه المرجع النهائي لكلّ ما تفرزه الحياة الإنسانية، فمع ترسيخه مقولة "ما من نازلةٍ إلّا ولها في كتاب الله حكم" وانتقالها إلى كلّ المذاهب الإسلامية الأخرى، أصبح النص القرآني المرجع النهائي وكتاب الحلول لكل المشكلات أو النوازل التي وقعت في الماضي، والتي تقع في الحاضر، أو التي ستقع في المستقبل.
ساد هذا المبدأ التاريخ العقلي والفكري العربي والإسلامي، يتراجع أحياناً ويتقدّم أحياناً، لكنه بقي موجوداً طوال الوقت. وما زال يتردّد في الخطاب الديني بكل اتجاهاته. وعمل هذا المبدأ الكلي على تحويل العقل العربي إلى عقل يقتصر دوره ومهمته على تأويل النصّ الديني، وإجلاء غموضه لإيجاد حلول للمشكلات المطروحة على الواقع اليوم، وهو ما عمل عليه اتجاهان متناقضان، إلى إغراق الدين في الإجابة عن القضايا التفصيلية من جانب، وعلى تعقيد حياة البشر من خلال البحث عن مبرّر شرعي للممارسات اليومية التي يقومون بها. وهذا ما سوّغ تدخل مشايخ الدين في الشؤون الدنيوية. ويستند التدخل إلى قاعدتين رئيسيتين: الأولى، أنّ الأوامر الإلهية التي جاءت في كتاب الله هو ما ينبغي التقيد به وتطبيقه في إيجاد الحلول للشؤون الدنيوية، وليس القانون الإنساني. الثانية، ليس القانون الإلهي واضحاً في جميع الحالات بما يكفي لأن يفهمه الإنسان العادي، لذلك هو بحاجة إلى تأويل لاستكشاف خباياه. وليس هذا الاستكشاف متاحاً لكلّ البشر، ولا يملك هذه القدرة سوى حفنة خاصة من البشر.
توحيد ادّعاء الحركات الأصولية مع إرادة الله يجعل أيديولوجيتها مطلقة، ويسمح لها بالادّعاء بأنها تمتلك حقائق مطلقة صالحة لكل زمان ومكان
تفترض القاعدتان أنّ القانون الإلهي، لا الإنساني، هو الذي يحكم حياة البشر، ولا دور للإنسان في اشتقاق أحكام حياته في مسارها وتناقضاتها وتجاربها، فعلى الإنسان تقع مسؤولية معرفة القانون الإلهي، كما جاء في الكتاب، وضمان العمل بموجب مضمون هذا الكتاب. والإنسان الذي عليه مسؤولية اشتقاق الأحكام يجب أن تتوفر فيه صفات خاصة، في مقدمتها المعرفة الدينية التي تؤهله أكثر من غيره لمعالجة النصوص الدينية واشتقاق الصحيح من القانون الإلهي وتنفيذه وفقاً للمبادئ الإلهية.
"الحاكمية لله" هي القاعدة التي تحكم طبيعة الأحكام الدينية، وإنّ دور الإنسان فيها مجرّد دور تنفيذي. وهو المبدأ الذي حكم ويحكم سلوك الحركات الأصولية، ويحكم تصوّراتها عن المجتمع الذي يسعون إلى بنائه، وهو ما عبّر عنه الأب الروحي للحركات الأصولية، سيد قطب، بالقول: "إنّ الجاهلية هي بالضرورة الخضوع لحكم البشر، لأنّ الحاكمية هي، مفهومياً، حكم الله".
يتضامن مفهوم الحاكمية مع مفهوم "الفرقة الناجية" عند الحركات الإسلامية الأصولية، ما يعني أنّ مبدأ "الحاكمية لله" يتحوّل إلى أن جماعة أيديولوجية معينة تدّعي لنفسها الحقّ في تمثّل إرادة الله، وهي تدّعي أيضاً أنّ من حقها تولّي زمام الحكم على أساس احتكار معرفة مضمون القانون الإلهي ومستلزماته العملية، وامتلاك أعضائها الصفات والفضائل اللازمة لتنفيذ أوامر الله ونواهيه. إن جماعة كهذه يكمن مبرّر وجودها في اعتقادها أنّها وحدها المؤهلة لتنفيذ إرادة الله في الأرض، وهي وحدها القادرة على تنفيذ أوامر الله ونواهيه.
حياة المجتمعات البشرية أغنى من أن توضع في قوالب جاهزة، حتى لو كانت هذه القوالب دينية
توحيد ادّعاء الحركات الأصولية مع إرادة الله يجعل أيديولوجيتها مطلقة، ويسمح لها بالادّعاء بأنها تمتلك حقائق مطلقة صالحة لكل زمان ومكان، وهي المرجع الأخير والنهائي لكل المسائل الدنيوية، وفي كلّ تفاصيل حياة البشر، ما يجعل هذه الحياة مستباحة من هؤلاء من دون وجه حق. وتوحيد الحركات الأصولية نفسها بإرادة الله، من خلال مجموعة من المطلقات، يجعلها تتعامل مع القضايا الثقافية والفكرية والإبداعية بمنطق التحريم والتجريم وفتاوى الردّة والكفر، وليس بمنطق الجدل والحوار والنقاش المفتوح. وبطبيعتها، لا تنمو الثقافة إلّا من خلال مساحة من الحرية وخارج مقولات التحريم والتجريم، لأن إخضاع الثقافة لهذه المقولات يحرمها من قدراتها وإمكاناتها في ترسخ مقولاتها الجمالية في تصوير تناقضات الحياة الإنسانية ومن مراكمة تجاربها الجمالية.
حياة المجتمعات البشرية أغنى من أن توضع في قوالب جاهزة، حتى لو كانت هذه القوالب دينية، فالغنى والتنوّع في المجتمعات لا يمكن قصرهما على هذه القوالب، وهذه المجتمعات تحتاج إلى الحرية من أجل التعبير عن نفسها وعيش حياتها، وتحتاج الحرية لفهم نفسها، وللتعامل مع مشكلاتها، ولفهم الأرضية التي تقف عليها. التعامل مع الحريات بمفهوم التحريم يعيق أيّ نقاش جدّي لفهم هذه المجتمعات ومشكلاتها الحقيقية، فليس تفسير المشكلات الاقتصادية، والصراعات الدموية وغيرها من هذه المشكلات، هو الاقتراب من الأحكام الدينية أو الابتعاد عنها، هذه إجابات تُعقد المشكلات ولا تحلها، لذلك، يجب إبعاد الأحكام الدينية عن النقاش العام لمشكلات هذه المجتمعات. لأنّ تكريس الخطاب الأصولي مقولات التحريم يؤدّي إلى نتائج مدمرة على الثقافة، ويدفع باتجاه تكريس نموذج أحادي ومشوّه يتنكر لتراث ثقافي غني ومتنوع خارج التراث الثقافي الديني.