التجربة "الإسلاموية" في المغرب من "الشرعية" إلى السقوط

30 يونيو 2024

حشد من أنصار حزب العدالة والتنمية المغربي في مدينة سلا (6/10/2016 فرانس برس)

+ الخط -

يقول المحلل المحافظ في المغرب، وهو على علم مفترض بمختلف تجارب العمل السياسي الإسلاموي في الدول المغاربية، وبصورة خاصة التونسية التي تصدّرت المشهد السياسي بعد إطاحة نظام بن علي (2011)، كلاما يفهم منه أن الحركة الإسلاموية في المغرب وفصيلها، حزب العدالة والتنمية كانت تجربة خاصة ورائدة، بل "استثنائية" جاءت، على الصعيد الأيديولوجي، بما عجزت عن الإتيان به غيرها من الحركات، وبخاصة كبراها، جماعة العدل والإحسان، التي لم تتمكّن من تحقيق "الشرعية القانونية" المطلوبة في المجال السياسي للخروج إلى ساحة العمل بحرية نسبية أكبر.

ويضاف إلى هذا القول التصور الذي مفاده بأن النظام السياسي لم يتغيّر كما تغير في تونس، ولم تتهاوَ، في خضم ذلك، الاختيارات السياسية والاقتصادية العامة التي تهم التطور العام في البلاد، خصوصا أن الظروف الاستثنائية التي عيشت في خضم ما سمّي "الربيع العربي" كانت بالغة السوء والتهديد عليه، لأنها فجّرت في وجهه ما كان مكبوتاً من عنف شعبي عدّه الكثيرون، من خلال الشعارات المرفوعة في الساحات العمومية، ثورة مطلوبة للقضاء على الظلم والاستبداد واستعادة الكرامة والمواطنة.

ومع ذلك، استطاعت حركة العدالة والتنمية، بحدس سياسي تَنَبُّئي، وربما بتحضير مُدبَّر، أن تجني منه بعد تغيير الدستور (2011)، ما كان يبدو في الفترات السابقة لمرحلة انتقال الملك (منذ سنة 2000)، من المستحيل جنيه بصورة علانية، رغم مختلف التسهيلات، ولعلها ابتدائية اختبارية، التي حظيت بها في أحضان أولياء السلطة منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي.

والأهم، من هذا وذلك، في هذا التصور أنَّ مراجعاتها الفكرية، ذات الطبيعة الدينية في علاقة بنظام الحكم (الملكية الدستورية)، وإمارة المؤمنين، وعَقْد البيعة كمقوّم أساسي في القانون المغربي العام، وبمختلف القضايا المتعلقة بالتطور الاجتماعي والاقتصادي في البلاد، من طبيعة الاقتصاد القائم (السوق) ونظامه الرأسمالي (التبعية، العولمة)، إلى الإكراهات التي تمليها الدول والمؤسسات المانحة على الصعيد العالمي ومراكزه التنفيذية، بلغت من الإبَاحة والجَواز أنْ قادت إلى تبني منهج (برغماتي/نفعي) تحوَّل، في كثير من مواقع عملها، إلى تبرير واضح للأوضاع القائمة حين عجزت عن الفعل فيها بما كانت تأمل من الفعل الإصلاحي المبني، كما بَشَّرَت بذلك، على الشفافية والنزاهة والدفاع عن مصالح الفئات الاجتماعية المقهورة ... إلخ.

هذه كلها تحولات واضحة لم يكن بمقدور غيرها من الحركات الإسلاموية في البلدان المغاربية الأخرى، فيما يبدو، أن تقوم بها في مناخ ملائم من الحرية النسبية، بل والحيوية التي ظهرت على فئات اجتماعية ساندتها بالصوت والتكبير والانتظار. والأسباب في هذا السياق كثيرة ومتعدّدة، غير أن الجوهري أن تلك الحركات قُوبِلَت، إلا من اختارت الولاء ورضيَت بالتطبيع مع السلطة، كما حصل في الجزائر مع حركة مجتمع السلم "حمس"، على سبيل المثال، بكثير من العنف وظاهر أشكال التطويق التي كان من أهدافها التحجيم والتسفيه ثم التركيع بطبيعة الحال. بل يمكن تأكيد أن غياب المناخ الديمقراطي السليم الذي يُنَظِّم العلاقات والسياسات بين مختلف "المكوّنات الشرعية" للمجتمع القائم، مهما كان مستواه من التحكّم، فضلا عن الطبيعة السلطوية ذات النفس الاستبدادي الذي تمتعت به النظم الحاكمة، أبطلت مختلف المشاريع الطموحة، سواء منها تلك التي استقوت بالحركات الأصلية الداعمة (الإخوان المسلمون)، أو تلك التي ظفرت بالتمويلات الضرورية من باب "التضامن الإخواني"، قصد تحميس المواجهات التي يخوضها "أهل الله وخاصته" على الصعيد العالمي، أو التي تفكّكت بسبب "الحروب الداخلية" والتناقضات الخاصة.

وفكرتي، بناء على هذا، أن التجربة الديمقراطية الخاصة التي ارتادها المغرب، في علاقة بانتقال الملك، وإن كانت بوادرها السياسية، طابعها الانفتاح والتساهل، قد ظهرت من قبل، هي التي هيأت المناخ "الديمقراطي" المناسب، ضمن إجراءات أخرى فرضتها التصورات المعتمدة وإجراءات الانتقال من "الاستبداد إلى دولة الحقّ والقانون"، فكانت حالة فريدة بين الدول المغاربية خففت، ولو إلى زمن، من غلواء السلطوية المطلقة والتحكم الجبري اللذين تعللت بهما دول أخرى لقهر شعوبها.

ما كان بالإمكان الحديث عن أية مراهنة، مهما كانت طبيعتها، إلا في المناخ المنفتح الذي أوجدته التجربة الديمقراطية الخاصة في المغرب

في مخاض هذه التجربة الواعدة ببشائر "الانتقال الديمقراطي"، برزت عدة أوراش، وتحرّرت أنظمة عقدية وسياسية وإيديولوجية من وثاقها التاريخي المشدود إلى الصراع والمواجهة، وظهرت المصالحة كمطلب آخذ في الانتشار لتسويغ العدالة الانتقالية. يكفي أن نشير إلى أن القوى السياسية ذات التوجّه "الوطني الديمقراطي"، إلى جانب أخرى التي عانت سنوات من التهميش والقمع المُمنهجَين، أصبحت تحتل المشهد السياسي بصورة أقوى مما كان عليه حالها في السابق: اليسار، بمختلف توجهاته وأزماته، في علاقة بالتحول السياسي المبني، في تقديره، على أوَّلِيّات حقوق الإنسان والإنصاف، والحركات الإسلاموية (خصوصا: العدالة والتنمية) التي رأت في الأعمال الإرهابية التي نفذتها جماعات تكفيرية غير مراقبة (2003)، خصوصا، بعد أن اشتدت حملة الاتهامات المناوئة ضدها، خروجا عن الإجماع الشعبي والشرعي الذي التف حول السلطة الحاكمة، لا من خلال إدانة الأعمال الإرهابية فقط، بل كذلك من حيث تأكيد أن النهج المتبع، وهو مختلف تحت اسم "العهد الجديد"، هو أقوم نهج للاستمرار في الوجود والظفر، إن أمكن مستقبلا، بالمنافع التي يوفرها، موضوعيا أو ذاتيا، للقوى الموالية أو المساندة، أو بهما معا.

ما كان بالإمكان الحديث عن أية مراهنة، مهما كانت طبيعتها، إلا في المناخ المنفتح الذي أوجدته التجربة الديمقراطية الخاصة في المغرب، وأساسا من خلال القدرة التي أبداها نظام الحكم بِدُرْبَة على امتصاص المعارضات التقليدية، بعد شقها وتطويع فصائلها، ولكن أيضا من خلال المراجعات الفكرية والعقدية، التي تمت على مراحل وبدرجات متفاوتة من الأهمية، في صفوف تلك المعارضات، مَنْ تطورت منها منذ أواسط الستينيات من القرن الماضي (وطنية وتقدمية)، وغيرها التي نشأت في أحضان "المسلسل الديمقراطي" بعد ذلك (إسلاموية وغيرها) إلخ.

غير أن ما لا يُذْكَر في الغالب أن القدرة المشار إليها كانت بمثابة سياسية مُنْتَهَجَة، بتدبير وإصرار، للتخفيف من أمرين مترابطين: الضغط الذي بلوره الصراع المجتمعي في جبهات إيديولوجية وسياسية مختلفة، والرغبة الجوهرية في ضمان الاستقرار الذي لا يحيد عن الانضباط، سواء في العلاقة ببعض القضايا السياسية البارزة (الصحراء)، أو في الاتجاه العام الذي يعطي للملكية، كنظام للحكم، مدى زمنيا أطول وأوسع لا يعطيه التحكم بغيرهما.

كما لا يُذْكَر أيضا أن القوى السياسية التي تفاعلت مع التوجهات الرسمية راهنت على معادلة جديدة، فيها ما في التحدي من أمْرٍ أو إرادة، على التعاطي مع أسلوبين أصبحا مختلفين: الشرعية ضدا على السرية والقمع، ومناخ العمل الحر المبني على اختيار مقبول لا تُنَازِعُ فيه السلطة، لأنَّه يمكنها من آلية مختلفة من آليات التحكم يمكن تسميتها بـ"الولاء الطوعي"... الذي أفلح "منظّروه"، من باب التبجّح واللّؤم، في تسميته بـ"تَمَغْرَبِيتْ" أو الاتجاه "المُوري" المعادي لكل اختيار آخر، لأنه مَغْرِس الشوفينية وتربتها المَسْقِيّة بفكرة "القومية المغربية" الأسيفة.

القوى السياسية في المغرب التي تفاعلت مع التوجهات الرسمية راهنت على معادلة جديدة، فيها ما في التحدّي من أمر أو إرادة

يتعلق الأمر، في هذا المستوى من تدبير متطلبات ما سمي في إبانه بمرحلة الانتقال الديمقراطي، بثلاثة عناصر تفكير متداخلة لضبط إيقاع الممارسة السياسية والاجتماعية التي انتهجتها السلطة واستوى عليها "المجال الشرعي" باعتباره مجال تفاهم وتسوية، وأعني بها: إدارة سياسة عامة ذات طابع ليبرالي، لا تقوم على المصادرة بل على الاستيعاب. وفي علاقة بذلك إدارة الحكم في أفق إشراك النُّخب الجديدة في بعض دوائر السلطة التنفيذية. مع الاعتبار بأن هذا الاختيار سبق أن كان حاسما ومُحَدِّداً يومَ أنْ تأكَّد الملك الراحل بأنَّ المغرب مُقَبِلٌ على سكتة قلبية قد يعقبها موت بَلَدٍ بأَكمله. وأما العنصر الثالث فهو الذي كان أكثر استجابة للواقع المتحرك المعاش بدرجات مختلفة من المعاناة، وأقصد به إدارة (الجبهة الوطنية) المؤلفة، في جانب أول، من (الرعايا)، أي عامة المواطنين المحكومين بوقائعهم المعاشية الخاصة، وفيها الكثير من الأوضاع الاستثنائية، وفي الجانب الثاني القضايا السياسية الملحة، وبعضها موروث لا فكاك منه، التي تتطلب العلاج أو الحل أو هما معا: قضية الصحراء إلى جانب التنمية المستدامة وبناء دولة المؤسسات وقضايا الحريات وحقوق الإنسان إلخ.. من أبرزها، وفيها مفتاح التحول الممكن إذا ما صيغت على الوجه الإصلاحي المطلوب.

لم ترتق حركة العدالة والتنمية سنة 2012 إلى "السلطة"، على أنقاض تحوّلات كثيرة أطاحت مختلف الاختيارت "الوطنية" و"الليبرالية" والتقدمية، إلا لأن "الانقلابات" الفكرية التي تمت في صفوفها وبين أعضائها، وهي التي صاحبت الاختيارات الرسمية للنظام الحاكم وحاجته إلى اختبار الأدوار والقدرات، كانت بمثابة إعلان رسمي، ولو مؤقتا، بانتصار الخيار "الإسلامي" على ما عداه من الخيارات الأخرى، فكانت طبيعة الديمقراطية المنتهجة، أو المجال الشرعي القائم على الثوابت (الملكية، الصحراء، الدين، السوق ... إلخ)، هو المآل الممكن لاختبار تلك السلطة على أرض الواقع، وفي علاقة بالمواطنين، وبالذات "النضالية" التي كثيرا ما ادّعت، أيام الدينامية المتوثبة، ما لا يخفى من "الطهرانية" ذات المظهر التَّقَوِي والعفَّة المُنْجِية من المهالك. أمّا ما رافق ذلك من انهيار تدريجي، بعد تجربة عمرت عشر سنوات، فقد قاد إلى السقوط المُرَوّع مُضْغَةً سهلة لـ"التماسيح والعفاريت" (2013) التي ندّد بها بنكيران، ثم لـ"جيوب المقاومة"، حسب سعد الدين العثماني (2021) آخر الساقطين.