استعادة التجارب النووية الفرنسية في الصحراء الجزائرية في ذكراها
عبرت يوم أمس، 13 فبراير/ شباط، الذكرى الـ64 لتفجير فرنسا الاستعمارية أول قنبلة نووية في الجزائر، والذي أعقبته تفجيرات ثلاثة أخرى، وهي التي أعلنت من خلالها فرنسا النادي النووي، وهي التي عملت على امتلاك القنبلة الذرية لدخول هذا النادي في فترة التسابق نحو التسلح مع غريمتها بريطانيا في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وفي سُعار ذلك التسابق المحموم نفذت الإدارة الاستعمارية سلسلة من التجارب النووية في الصحراء الجزائرية في منطقتي رقان وإينكر في الستينيات من القرن الماضي. وعلى الرغم من تنامي الرفض الدولي للتسلح الذرّي من الثلاثي (أميركا، بريطانيا، روسيا)، إلا أن السلطة الفرنسية أصرّت على تنفيذ خطّتها في إجراء التجارب النووية، تاركة وراءها نفاياتٍ سامة ومشعة تبقى ملايين السنين، وتشكّل خطراً مستمرّاً على الكون. وببقاء تلك الإشعاعات النووية، تُراكم آلام الذاكرة الموتورة أصلاً بين الدولة الجزائرية وفرنسا، وتزيد من حجم التأثيرات المدمّرة والمخاطر المُحدقة بصحّة السكّان وظروف حياتهم، وفي غياب الاعتراف بالجريمة والمطالبة بتحقيق عدالتها وما يترتّب عنها من معالجةٍ تنهي المخاوف من المستقبل المجهول يتوالد السؤال المحرق: متى تنتهي معضلة مخلفات تلك التجارب الذرية وآثارها المدمّرة على الإنسان والحيوان والنبات والبيئة، ومن ثم تعالج آلام الذاكرة بين الشعبين والبلدين؟
تجارب نووية مع سبق الإصرار والترصد
سارعت فرنسا بعد إلقاء الولايات المتحدة القنبلتين النوويتين على هيروشيما وناغازاكي في اليابان (1945) إلى إصدار مرسوم رئاسي لتأسيس محافظة الطاقة النووية (Comissariat de l'énergie Atomique) في 8 أكتوبر/ تشرين الأول 1945، وبتوقيع مباشر من الجنرال شارل ديغول، حيث عملت الهيئة على إيجاد كل الوسائل والطرق لاكتساب السلاح النووي ودخول ناديه. وأشرفت المحافظة على تنفيذ 57 تجربة نووية، بل هناك من أوصلها إلى 117، وذلك بعدما أصدرت مراسيم أخرى لتعزيز الرؤية وتحقيق الهدف، منها المرسوم المؤرّخ في 10 مايو/ أيار 1957 الذي خصّص مساحة 108 آلاف كيلومتر مربع على بعد 60 كلم من مدينة رقان حقلاً للتجارب النووية. وأنشأت فرنسا قاعدة "الحياة" على بعد 40 كيلومترا من القاعدة الأولى التي تسمّى "التارقية"، وأمدّتها بكل مقوّمات الحياة والنشاط والعمل. وأوفدت إليها نحو أربعة آلاف من الجنود والضباط الفرنسيين، وما يقاربهم من العمّال الجزائريين البسطاء، الذين عملت فرنسا على تدويرهم كل ثلاثة أشهر، خوفا من اكتشاف مخطّطاتها وما يجري من تجارب في أنفاقٍ سرّية في منطقة حموديا بين رقان وصحراء تانزروفت، لتكون حموديا المنطقة الرئيسية والأهم لإجراء تلك التجارب النووية التي ينخرط فيها أولئك البسطاء الذين كانوا يجهلون الأخطار التي تتهدّد صحتهم، خصوصاً أن الخبراء والباحثين في تاريخ هذه المأساة الكونية وقفوا على ضعفٍ رهيبٍ في توفير أدوات الوقاية وطرقها، كما وقفوا على ضروب من العشوائية، نتيجة الاستعجال نحو اكتساب السلاح النووي وبأي كلفة، ونتيجة نقص الكفاءة والخبرة ومخافة تسريب المعلومات للأعداء والخصوم.
تحت الأرض وفوقها
أجرت فرنسا في منطقة إينكر (تمنراست) عدّة تجارب أرضية، لم تؤدّ إلى نتائج كارثية، باستثناء حادثة واحدة، وهي تسرّب إشعاعي أثناء تفجير قنبلة تسمّى بيريل، يوم 2 مايو/ أيار 1962، عندما تركت فتحة نفق أرضي من دون غلقٍ مُحكم، ما أدّى إلى انبعاث إشعاعات نووية، انتشرت في الهواء. تحدّث عنها لاحقا عدد معتبر من الجنود الفرنسيين في مذكّراتهم، ممن أصبحوا في ما بعد ضحايا تلك التجارب النووية في أقاصي الصحراء وفي جبل إينكر، وشهد بعضهم أن الفطر السامّ تغلغل في ذرّات الأوكسجين وجزيئات الماء، وتسبب في كارثة إنسانية تضرّر منها الجنود والعمّال حينها، ثم لحق الضرر البيئة كلها في تلك الصحراء.
كانت التجارب النووية في رقان بمنطقة حموديا الأخطر والأطول، لأنها أجريت فوق سطح الأرض
أما التجارب النووية في رقان بمنطقة حموديا فقد كانت الأخطر والأطول، لأنها أجريت فوق سطح الأرض، وبسبب استمرارها حتى بعد استقلال الجزائر؛ أي إلى سنة 1966 استنادا إلى بند غامض في اتفاقيات إطلاق النار بين الوفد الجزائري المفاوض والسلطات الاستعمارية! قامت الإدارة الفرنسية بأربع تجارب كبرى متوالية بحموديا، أطلقت عليها أسماء اليرابيع، ومنحتها ألوان العلم الفرنسي، لتؤكّد الرغبة وسبق الإصرار والرصد. ويسجل تاريخ هذه التجارب أن أقوى القنابل وأعنفها وأخطرها على الإنسان والبيئة هي القنبلة الأولى، والتي بثت الرعب في قلوب الساكنين إلى درجة أن شهود العيان قالوا إنهم اعتقدوا أن القيامة قامت، وسمعوا صوت انفجارها على بعد أكثر من 150 كلم من رقان باتجاه أدرار، وأن الأبواب شرعت، والجدران سقطت. وأخذت هذه القنبلة اسم "اليربوع الأزرق"، ووقعت في 13 فبراير/ شباط 1960، وبلغت قوتها التدميرية 70 طناً من مادة TNT، وهي تفوق تفجيرات هيروشيما وناغازاكي بثلاثة أضعاف، وأعلنت فرنسا بها امتلاكها السلاح النووي، وأعلنت سحابتها المشعة الخراب الأبدي على المنطقة لتدمير الحياة بها.
واستمرّت فرنسا في تنفيذ تجارب مماثلة وعلى سطح الأرض، إذ نفّذت في إبريل/ نيسان 1960 القنبلة الثانية التي حملت اسم "اليربوع الأبيض"، وكانت قوتها التدميرية أقل من الأولى، إذ بلغت 20 طناً من مادة TNT، ولكنها كانت الأخطر على المناطق المأهولة بالسكان بسبب سوء الأحوال الجوية والزوابع الرملية وما حملته الرياح إليهم من سموم. وأدّت السحابة إلى كوارث كبيرة على الإنسان والحيوان والبيئة كلها، حيث استشعر السكّان خطرها وخافوا على مستقبل زراعتهم مصدر قوتهم الوحيد. كما سجّلوا، منذ تنفيذ الأولى وبعد الثانية، تغييرات في مشربهم ومحاصيلهم وصحتهم، وشعروا بحالة من الخوف والفزع، وقد احتج بعضهم لدى الحاكم الفرنسي برقان خوفا من تأثير التجارب على أمنهم وقوتهم.
التأثيرات مستمرة ومزمنة، والنفايات لم تعالج معالجة علمية في ردمها وتنقيتها حتى ينتهي تهديدُها الإنسان والحياة
وفي 27 ديسمبر/ كانون الأول 1960، فجر المستعمر القنبلة الثالثة تحت اسم "اليربوع الأحمر"، وبلغت قوتها التدميرية 15 طناً من المادة المتفجّرة. وفجّر القنبلة الرابعة والمسماة "اليربوع الأخضر" في 25 إبريل/ نيسان 1961، وبقوة تدميرية بلغت عشرة أطنان، واكتملت بها التجارب الأربع الشهيرة والمؤثرة لتستمر تجارب أخرى أكثر سرّية، غير أن الباحثين والمهتمين بهذه القضية سجّلوا أن كل التجارب شابتها تصرّفات عشوائية وارتجالية عديدة، وحتى توظيفها للتطورات السياسية، خصوصاً مواجهة وقمع حركات التمرّد والاحتجاجات داخل الجيش الفرنسي، ما أدّى إلى نتائج غير متوقعة، أحالت صحراء التجارب إلى مقبرة للنفايات والإشعاعات النووية المدمّرة للبيئة والحياة.
وتبقى قنبلة اليربوع الأزرق الأكثر تدميرا وتأثيرا بما خلفته من ضحايا وتأثيرات، وما تركته من تسمّم جوي تجاوز كل التوقّعات بشهادة المدير السابق لمحافظة الطاقة الذرية الفرنسية، إيف روكارد، الذي دوّن في مذكرته: "تحمل سحابة نشاطا إشعاعيا أكبر بـ 29 مرّة من معدّلها"، وهذا أكبر دليل على غياب الخبرة وتوفر عنصر العشوائية.
آثار مدمّرة ومستمرّة
استنادا إلى ما نقله الباحث العراقي، عبد الكاظم العبودي، رحمه الله، المتخصص في الفيزياء الحيوية، وكذا تأكيدات الباحث الجزائري، عمّار منصوري، وما توصلّا إليه في أبحاثهما، ترتقي التجارب النووية في الصحراء الجزائرية إلى مستوى الجرائم الإنسانية، بسبب مخلفات مشعّة مدمّرة تبقى إلى ملايين السنوات، وأن تلك الآثار حسبهما غيّرت الخريطة الجينية لحظيرة المنطقة كلها، ليصبح الإنسان غير الإنسان، والحيوان غير الحيوان، والنبات غير النبات. والأفظع من ذلك الضحايا من البشر الجزائريين الذين لم تنصفهم عدالة الأرض، وحتى من الفرنسيين الذين أنشأوا جمعية للدفاع عن حقوقهم. وقد رصدت المنظّمات الحقوقية الجزائرية حوالي 42 ألف ضحية للتفجيرات النووية. كما رافعت بشأن جريمة أخرى أنكى وأخزى في تاريخ الاستعمار، وهي تصفية 150 شخصا من السجناء الذين ربطتهم فرنسا في النقطة الصفر وقرب التفجيرات، بعضهم على شكل دمى، وعوملوا كفئران تجارب، وما زالت فرنسا تتنكر لهذه الممارسات، فيما استمرّت المنظّمات الحقوقية الجزائرية تثير تصفية أولئك السجناء الذين اختفوا من سجن بلعباس، ووضعوا كلحم المدافع تخلّصا من أنشطتهم الثورية.
والتراجيدي أن التأثيرات مستمرة ومزمنة، والنفايات لم تعالج معالجة علمية في ردمها وتنقيتها حتى ينتهي تهديدُها الإنسان والحياة، وأن استمرار الرعب النووي في مقبرة النفايات هذه يشكّل هاجسا نفسيا وكابوسا يهدّد مستقبل الحياة والسكان، ثم بات الخطر يتكشّف مع الزمن، إذ سجلت المؤسّسات الاستشفائية متاعب صحية وأمراضاً خطيرة ومتزايدة عديدة بشكل لافت. وقد أشرف العبودي على أبحاث ميدانية عديدة، واكتشف انتشار الطاقة الإشعاعية، حيث تتزايد كلما اقتربنا من المنطقة الصفر، وانعكس ذلك على السكان والوضع الصحي، حيث سجّل تزايد حالات العمى والعقم والتشوهات الخلقية للمواليد وتزايد الإصابة بالسرطانات المختلفة.
ما زالت فرنسا ترفض فتح ملف الذاكرة وإعادة الأرشيف الوطني، بما فيها خرائط النفايات الذرية
وحسب تقرير للوكالة الدولية للطاقة الذرية أعدته سنة 1999، ونشرته في 2005، فإن 40 منطقة في حموديا وإينكر تعاني من خطر الإشعاع النووي زمن إجراء التحقيق، وإن المحيط القريب لمكان التفجيرات النووية في حموديا عرف ارتفاعا أعلى في نسبة الإشعاع، ما يؤكّد الخطر والتأثيرات المزمنة لهذا الخراب النووي المستمرّ في حق الأرض، برقان وإينكر وما جاورهما.
وقد سُجلت في جامعة أدرار ومعظم جامعات الجزائر أبحاث عديدة، علمية في العلوم الدقيقة وفي العلوم الإنسانية، وأكّدت كلها أن للتفجيرات الذرّية نتائج خطيرة على الصحة والحياة، وتوصلت إلى ربط التفجيرات والإشعاعات بتنامي ظواهر الإجهاض والعقم وتشوّهات المواليد والخدج وتكاثر أمراض العيون، إضافة إلى تشوّهات السلالات الحيوانية وتناقص أعمارها، وكذا تراجع الإنتاج الزراعي ورداءة نوعيته، وظهور أمراض غير معروفة في المنطقة مسّت واحة النخل، مثل بوفروة والغبرة والعسيلة. وقد تحرك المجتمع المدني في رقان متأخّرا وأنشأ جمعية 13 فبراير 1960، وأدّت الجمعية مجهودات كبيرة لفضح خطر الجرائم وتأثيراتها على الجماعة البشرية، وسجّلوا شهادات منقولة عن شهود عيان عايشوا الحدث وعملوا في حموديا، كما دوّنوا التأثيرات التي تلاحقت على المنطقة بعيد التجارب النووية، حيث يقول رئيس الجمعية الأسبق، عبد الرحمن لقصاصي: "كل منطقة رقان مصابة بالإشعاعات النووية. وسجل المستشفى ارتفاع عدد المصابين بالسرطان سنة بعد سنة، إضافة إلى أمراض العيون والغدد وأمراض الجلود".
الحلول ومعالجة الوضع القائم وآفاق المستقبل
بالرغم من مرور 64 سنة على التفجيرات النووية في الصحراء الجزائرية لا يزال النكران سائدا، ولم يعترف المستعمر بجرائمه الشنعاء في حق البشر والشجر والحجر، بل انتقل إلى ممارساته الاستعمارية القديمة الجديدة في ازدواجية المعايير والتعامل مع الضحايا على حسب الهوية والانتماء، بعيداً عن عميق الانتماء إلى وحدة الإنسانية ومنطق حقّ الحياة والحفاظ على البيئة الذي تحوّل إلى شعارات فارغة كلما تعلق الأمر بحقوق الدول المستعمَرة، إذ أقبلت فرنسا على سنّ قانونٍ تعويضي للضحايا الفرنسيين بشكل مقطّر، وما زالت ترفض فتح ملف الذاكرة وإعادة الأرشيف الوطني، بما فيها خرائط النفايات الذرية، بينما تصرّ الجزائر على المعالجة الشاملة لهذه الكارثة البيئية التي تتراكم، وتستمرّ معها معاناة المواطنين. ولذلك تؤكد الجزائر، رسميا وشعبيا، على حلول في نقاط عملية:
الاعتراف بالجريمة وإدانة سياقاتها التاريخية وممارسات حقبة وحشية من التاريخ الاستعماري لفرنسا بالجزائر. الكشف عن الأرشيف الوطني المهرّب عند فرنسا وضرورة الكشف عن الخرائط الطبوغرافية التي تبرز المدافن النووية. إعادة دفن النفايات النووية بطريقة علميةٍ تحفظ مكوّنات البيئة وتضمن عدم الإصابة بالإشعاعات الفتاكة والنفاذة والمبادرة لإنشاء مراكز ومؤسّسات استشفائية لمعالجة الضحايا الحاليين والتكفل بهم. رفض سياسة الاعتراف التقطيري والتعامل وفق سياسة ازدواجية المعايير في التعامل مع الجريمة نفسها وضحاياها من الجنسيتين. التكفل بالضحايا وعائلاتهم والمسارعة إلى تعويضهم وتطبيبهم ومحاصرة مجال الإشعاع وحظيرته، وأن هذه الجريمة لا يمكنها أن تسقط بالتقادم.
أخيرا، الجرائم النووية في رقان الجزائرية قضية إنسانية عادلة، وتخصّ الإنسان وحقه في العيش بسلام وأمان، وتخصّ البيئة وكيفية الحفاظ عليها من أي تلوّث ذرّي وسامّ يضرّ الإنسان والحيوان والنبات. وإلى غاية إيجاد حل عادل ومنطقي وتوافقي بين الجزائر وفرنسا في معالجة آلام الذكرة واسترجاع الأرشيف الوطني، تبقى هذه القضية عالقة، ويواصل اليورانيوم المشعّ ممارسة فتكه وبطشه بالبيئة ومكوّناتها من البشر والكائنات الحية في ظل الضبابية التي تملأ الآفاق والتلكؤ من معالجة أثقال التاريخ الاستعماري لفرنسا.