البيت وصاحبتُه
ما زالت الأقدار تُلقي بي أمام قصصٍ حزينة توجع قلبي أكثر وتثقله بالهمّ، علاوة على ثقل همّ الحرب. ولذلك كان لقائي وقربي من صاحبة البيت التي بتُّ أشفق عليها، وأضع سيناريوهات عديدة ومحزنة يقفز من بينها سيناريو مبشّر، وكلّها بالطبع من باب خيالي المرهق، مثل أن ينجو بيتُها فيما يحيط به دمار وأنقاض البيوت. وربما تخيّلتُ ذلك السيناريو المتفائل الوحيد لأنّي أصبحتُ على قناعة بأن علاقة مختلفة تربطها بالبيت، وأن البيت نفسه لا يشبه البيوت المحيطة به، رغم أن التصميم الداخلي والخارجي يكاد يكون متشابهاً، ولكنك تشعُر أنه مختلف حين ترى صاحبته، وتتلمّس تلك العلاقة القائمة بينهما. فالبيتُ يقع ضمن أحد المشاريع التي أقامتها إحدى الدول المانحة للقطاع، وحيث تكفّلت بإنشاء حيّ بمحاذاة حدود رفح مع مصر لإتاحة مساحةٍ سكنيةٍ لمن دُمّرت بيوتهم في حروب سابقة، وقد اشترت تلك السيدة هذا البيت من صاحبه الأصلي، الذي باعه، على اعتبار أنّه فرصة لكسب بعض المال، فهناك أشخاص لا يفضّلون بيوتاً راقية على رزمة من المال في بيت متهالك، أو كوخاً من تلك الأكواخ المتنقّلة، ويُطلق على الواحد منها مسمّى "كرفان".
وهكذا وضعت أصابعي العشرة على حدود (وتشعّبات) علاقة تلك المرأة ببيتها، فهي موظفة في مستشفى. ورغم مرض زوجها وعدم قدرته على العمل، تحمّلت، على حدّ قولها، ربع قرن من المعاناة في بيت العائلة في المخيّم، وهي تدّخر القرش فوق القرش، وتحرم نفسها وأطفالها كل الكماليات، وتعلّمهم القناعة بشطيرةٍ من الخبز الممسوح بالزّعتر وزيت الزيتون من أجل ادّخار مبلغ، واقترضت مثله من أشقائها وشقيقاتها، حتى استطاعت أن ترى النور خارج بيوت المخيّم المتلاصقة والمُعتمة، ويصبح لها بيت بحديقة وارفة وشرفات تردّ الروح، حسب تعبيرها.
أصبح هذا البيت الجميل، قبل عامين، ملكاً لتلك السيدة البدينة الطيبة، التي لا تتوقف عن الحركة، مثل نحلة نشطة منذ ساعات الفجر الأولى، فتجدها بين الأشجار تجمع الأوراق الجافّة في دلو صغير وتضعها فوق كومةٍ جانبيّةٍ، وبعد ساعة تشمّ رائحة خبزها الشهيّ المخبوز في فرن الطابون الذي بنته بيديها من الطين في ركن آخر من الحديقة. ولستُ بحاجة للذكاء لكي تستنتج أن أوراق شجر الحديقة الجافّة هي وقود نار الفرن، فهي لا تترك شيئاً من دون أن تستفيد منه لكي توفّر القرش، فلا تحتاج لشراء الحطب مثلاً، وذلك لكي تسدّد ديون البيت وتتنفس الصعداء حسب تعبيرها أيضاً، فالدَّين همّ، وهي تريد أن ترتاح بشعورها أنها أمّنت بيتاً لزوجها المريض، ولأولادها الذين ما زالوا بلا قدرة على بناء أوّل لبِنة لمستقبلهم.
تراها اليوم ساهمة مع الأخبار المتواردة عن اجتياح رفح، وتتساءل عن المسافة بين بيتها وما يُسمّى محور فيلادلفيا، وهل ستطاول العمليات العسكرية وتطهير الحدود بيتها، فيصبح أثراً بعد عين. وتتساءل أيضاً عمّا سيحلّ بأشجارها وأصص الزرع وطيورها الداجنة، وعصافير ابنها الملوّنة المعلّقة أقفاصها على طول الممرّ الذي يربط بين باب البيت والحديقة الخلفيّة، والتي لا ينقطع غناؤها فيما لو طُلب منهم إخلاء البيت والانتقال إلى مكان آخر لم يحدّد بعد.
تُلقي صاحبة البيت أسئلة لا تملك لها أجوبة، وتجعلني أشعر بالشفقة عليها، وألهثُ كلّ ساعة بالدعاء لكي ينجو بيتها، فالعلاقة بينها وبينه علاقة أمّ تربّي طفلها وتراه يكبُر يوماً بعد يوم، فكل يوم أراه حين أطلّ من شرفة الطابق الثاني قد أصبح أجمل وأكثر نظافة وترتيباً وإشراقاً عن يومه السابق، وكل يوم أكتشف جمالاً صنعتْه تلك السيدة في ركنٍ ما، فهي تمتلك مهارةً لا توصف في إعادة تدوير المهملات التي نلقيها بالقمامة، ولكنها تستفيد منها، وتصبح ذات فائدة، تنقل إليك رسالةً أنك أمام امرأة ماهرة محنَّكة وقويّة، ولكنها لن تكون قادرةً على الوقوف أمام آلة الحرب، مهما امتلكت من قدراتٍ حوّلت بيتاً من إسمنت إلى آية من آيات الجمال.