البوعزيزية المجتمعية
في عام 2012، وفي ذروة الثورة المصرية، كنت أركب سيارة أجرة في القاهرة (وعادةً ما تسمع نبض الشارع هناك من سائقي هذه السيارات)، قال لي السائق: يا سيدي، هذه الثورة هي للطبقة الوسطى، لكن ثورتنا نحن لم تأت بعد؟ ومن أنتم، قال لي: المهمّشون والفقراء والمحرومون، وعندما يحين وقتها لن تكون مثل ما رأيتم، ستأكل الأخضر واليابس.
في تقرير نشر في "العربي الجديد" أول من أمس، بعنوان "على خطى البوعزيزي.. تونسيون ينتحرون حرقاً رفضاً للظلم"، يذكر المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أنّ هنالك 218 محاولة انتحار في تونس خلال عام 2020. ويقدّم التقرير أمثلة على حالة الشعور بالظلم لدى كثيرين مع تدهور الظروف الاقتصادية في البلاد.
بالضرورة، لا تختلف الحالة التونسية، من زاوية التدهور في الأوضاع العامة، عن أغلب الدول العربية، لكنّ الخصوصية فيها أنّها تأتي من دولةٍ نجحت في إنجاز ثورةٍ شعبيةٍ استمرت، وأدت إلى نقلٍ للسلطة، والتقدّم في مجال الديمقراطية والحريات العامة والخروج من الحلقة المفرغة التي تعاني منها الدول العربية الأخرى. مع ذلك، لا تبدو الماكينة الديمقراطية كفيلةً بالتغلب على الأزمات التنموية والاقتصادية، حتى بعد أن وصلت المعارضة إلى الحكم، وفي مقدمتها حزب النهضة الإسلامي. ولا يختلف الحال عنه في المغرب. وإن لم يشهد ثورة شعبية، فإنّ الإصلاحات أدّت، هي الأخرى، إلى وصول حزب المعارضة ("العدالة والتنمية" الإسلامي) إلى الحكومة، ويتولى أحد زعمائه اليوم، سعد الدين العثماني، موقع رئاسة الوزراء.
صحيح أنّ الحال سياسياً، في كلتا الدولتين، يبدو أفضل من دول عربية أخرى، لا تزال ترزح شعوبها تحت طائلة السلطوية، بالإضافة إلى الهموم الاقتصادية، إلّا أنّ الديمقراطية كآليات فقط في الحالة العربية لن تكون قادرةً على الخروج من الأزمات المجتمعية، وربما لن تمنع الانفجارات الشعبية على أسسٍ اقتصادية، فالشعوب تجني علقماً من عقودٍ طويلةٍ من الاستبداد والفشل في إدارة الدول، والوصول إلى مرحلةٍ أصبحت أحزاب المعارضة فيها تقود السلطة في مأزق حقيقي.
الأخطر من ذلك (وفي ظل الحديث عن عشرية الربيع العربي على أبواب العام المقبل 2021) أنّ المؤشرات والتوقعات تذهب إلى تجذّر الأزمات، بخاصة إلى ارتفاع قياسي في معدلات البطالة ومزيد من الفقر والحرمان الاجتماعي، بالتزامن والتوازي مع ارتفاع معدّلات التعليم الجامعي، مع عجز سوق العمل عن استيعابهم.
نحن، إذن، أمام عامٍ ساخن فعلاً، وإذا كانت الحكومات التي تسير في العملية الديمقراطية عاجزة عن التعامل مع المشكلات المجتمعية والسكانية، فمن باب أوْلى، لن تستطيع الحكومات السلطوية أن تستوعب المخاطر الداخلية الكبيرة، بل ستكون الانفجارات فيها أكثر عنفاً.
في المجمل، الجميع، حكومات ومجتمعات، عالقون اليوم في هذه الحال. والجميع يدفع الثمن. الإصلاح السياسي والسير في الديمقراطية نصف الحل، وهو أمرٌ أساسيٌّ لتجاوز الأسباب التي دفعت بنا في السابق إلى هذه الأزمات. عندما تستفرد مجموعة من الأشخاص بالقرارات الإدارية والمصيرية، وفي أحيان كثيرة، بالثروات الوطنية، لن تكون النتيجة إلّا بمثل هذا الحجم من الخراب. وفي الوقت نفسه، ما يحتاجه اليوم العالم العربي (يتجاوز فقط الإصلاح السياسي) هو عقد اجتماعي جديد بين فئات المجتمع وشرائحه نفسها، مع تنامي الفجوات الداخلية بين الفقراء والأغنياء، بين الطوائف والجماعات الاجتماعية المختلفة والأزمات بين المركز والأطراف.
ما مضمون العقد الاجتماعي؟ خطة إنقاذ للمستقبل، تتضمّن الالتزام بالديمقراطية والمواطنة والحريات والتنمية الاقتصادية والمجتمعية، توافق واضح على الأولويات المطلوبة من الجميع، على آليات تحقيق العدالة الاجتماعية، وبناء ورشات داخلية مبنية على إدراك حجم الأزمات وتصوّرات توافقية للمسارات والأهداف، وهو أمر لا يمكن أن يحمله حزبٌ واحد أو تيار معين، أو حتى بعض التيارات السياسية، حتى إن وصل إلى السلطة عبر صندوق الاقتراع (فضلاً عن أشخاص سلطويين).
أمّا إذا لم يكن هنالك برامج طوارئ عاجلة لمواجهة هذه المشكلات الكبرى، وحوارات وطنية عميقة، فإنّ العام المقبل سيؤدي إلى أزمات أكبر وأخطر. وبدلاً من بوعزيزي يحرق نفسه احتجاجاً على الظلم، سنجد ملايين الشباب العاطلين والمهمشين والغاضبين والجائعين يحرقون مجتمعاتهم.