البطّّة العرجاء ذات الأنياب

24 نوفمبر 2024
+ الخط -

سمح الرئيس الأميركي، جو بايدن، لأوكرانيا ولأول مرّة باستخدام صواريخ بعيدة المدى لضرب العمق الروسي، وهو القرار الذي عارضه منذ بداية الحرب الروسية، حيث كان حريصاً على أن يُبقي العمليات العسكرية ضمن الداخل الأوكراني، ليتجنّب ما يمكن اعتباره اعتداءً على روسيا، وليبقي إطار الحرب في حدودٍ مضبوطة. ومن اللافت أن يتّخذ بايدن قراره في هذا الوقت الذي يعد فيه أيامه الأخيرة في البيت الأبيض، وعادة ما تسمّى هذه المحطة للرئيس الأميركي المغادِر بمرحلة البطة العرجاء، كناية عن تكبيل الرئيس المنتهية ولايته بقيود تمنعه من اتخاذ أيّ قرار حاسم احتراما للرئيس القادم، ولصعوبة إقناع الأحزاب بقرارات جديدة، ولانشغال الإدارة برمتها بعمليات التجهيز لتسليم الفريق التالي..

تبدو تسمية البطّة العرجاء مجرّد بلاغة، وليس لها مكان في الواقع، فلطالما اتّخذ الرؤساء الأميركيون قرارات حاسمة ومثيرة للجدل خلال الـ75 يوما التي تفصل بين يومي الانتخاب والتنصيب، وهناك آخرون اتخذوا قراراتٍ شديدة الأهمية في التاريخ الأميركي في الفترة العرجاء، بعضها ذو مضمون وطني متعالٍ عن الحزبية الضيقة مع تجاهل للفترة الحرجة، وبعض القرارات كانت لمجرّد المناكفة السياسية ومحاولة لتوريط الرئيس القادم.

من حقّ الرئيس الأميركي أن يمارس سلطاته الكاملة حتى اللحظة الأخيرة، وعبارة البطّة العرجاء مفهوم سياسي وليس نصّاً دستورياً. وبناءً على ذلك، وقّع الرئيس جون تايلر عام 1845 مرسومَ ضمِّ ولاية تكساس، وكانت الأحزاب معارضة لهذا الضمّ، لما تعاني منه تكساس من مصاعب اقتصادية ومشكلات مع المكسيك. وتجاهل الرئيس جيمس بيوكانان عام 1861 انفصال سبع ولايات من الجنوب، وترك الأمر لإبراهام لينكولن الذي أعاد الولايات المتمرّدة بالقوة، فيما سمّيت الحرب الأهلية. وفي عام 1961، وفي أيام الرئيس دوايت آيزنهاور الأخيرة، زادت وتيرة العلاقات العدائية مع نظام فيديل كاسترو الصاعد في كوبا، فقطع العلاقات الدبلوماسية معه، تاركا الرئيس كيندي يواجه المشكلة التي قادت إلى مأساة خليج الخنازير. ردّ الديمقراطيون الديْن بواسطة الرئيس جيمي كارتر، ففي يومه الأخير في السلطة وقّع مرسوم "سوبر فوند"، وهو صندوق قيمته أكثر من واحد ونصف مليار يُعنى بتنظيف المناطق التي تعرّضت للتلوث سيحتم على الرئيس الجمهوري القادم إنفاقه.

امتد العهد الجمهوري بعد كارتر 12 عاما، حكم خلالها رونالد ريغان ثماني سنوات وتبعه جورج بوش الأب بأربع، وكانت فضيحة "إيران كونترا" قد أضفت بقعة قاتمة على فترة ريغان. ولم يترك بوش الأب كرسيه قبل أن يوقّع قرارا بالعفو عن ستة من المتورّطين في الفضيحة ممن دينوا أو كانوا تحت المحاكمة، رغم أن ريغان المتورّط لم يوقع الأمر في نهاية فترته كي لا يسيء لحملة بوش الرئاسية. وعندما خسر بوش الأب حملته لفترة رئاسية ثانية أفرج عنهم، بما يمتلكه من سلطات دستورية، من دون أن يخشى أية تبعات انتخابية، وقام بخطوة عسكرية تبدو توريطية، إلى حدٍّ بعيد، عندما أمر، قبل نهاية ولايته بأيام، بإرسال 30 ألف جندي إلى الصومال. وقد ألغى خلفه كلينتون المهمة بعد 15 شهرا فقط، وأعاد الجنود إلى الولايات المتحدة. وفي سياق آخر، كرّر ما فعله بوش الأب، عندما انتظر يومه الأخير في البيت الأبيض، ووقّع أمراً بالعفو عن 140 شخصاً، وخفّف الأحكام عن 36 آخرين، وكان أشهر الذين عفا عنهم ملياردير هارب، يدعى مارك رتش، متهم بالاحتيال على الضرائب، وقيل إنه كان يموّل الحزب الديمقراطي بطرق خاصة، وهو السبب الوحيد الذي جعل كلينتون يعفو عن شخصٍ منبوذ كهذا.

لم تتوقّف مطبّات اللحظة الأخيرة واستخدم رؤساء أميركا سلطاتهم حتى النهاية، ما يجعل عبارة البطّة العرجاء مجرد عبارة طريفة لا قيمة لها، لأن البطّة التي تبدو غير قادرة على المشي بشكل سويّ يمكنها أن تجيد العضّ المؤلم.

فاطمة ياسين
فاطمة ياسين
كاتبة سورية، صحفية ومعدة ومنتجة برامج سياسية وثقافية