البحث عن عظْمة فضائية

14 مارس 2021

(هانيبال سروجي)

+ الخط -

ليس مهمًّا مصير الكلبة المحظوظة لايكا، بل المهمّ أنها كانت أول مخلوق أرضي يصل إلى الفضاء في العام 1957، على متن مركبةٍ فضائيةٍ روسية، فقد كان الروس يسابقون الزمن للتفوّق على الولايات المتحدة في هذا المضمار، وكان لهم ما أرادوا. أما لايكا التي دفعت حياتها ثمنًا لسباقٍ لا ذيل لها فيه ولا نباح، فقد مجّدها التاريخ، ودوّن اسمها في سجلّ الشرف.

كانت تلك قناعةً راسخةً في قرارة علماء الفضاء، فلا دور للايكا أزيد من أنها كلبة تجارب، يُؤتى بها من أيّ مزبلةٍ نائية، وتخضع لحمّام ساخن تدلق فيه زجاجات الشامبو والعطور على جلدها، ومن ثمّ تجفيفها. وقد تكافأ بعظمةٍ فاخرةٍ قبيل الاختبار الذي لا تعرف عنه شيئًا، ثم تربط إلى كرسي المركبة، وتندفع إلى حيث المجهول. أما الهالة التي أحيطت بها، والضجّة الإعلامية التي رافقتها، فهما محض مكافأةٍ تدفع لأي "دوبلير" يمارس دور البطل في لقطةٍ بهلوانيةٍ لا يستطيع البطل أداءها. فمن شروط البهلوان أن يكون كائنًا خلفيًّا لا يتجاوز ظلّ البطل، وإن اقتضت الضرورة عليه أن يطمس ملامحه بالدهان.

غير أن ما لم يعرفه العلماء أن لايكا كانت أكبر من دوبلير. صحيحٌ أنها أُرغمت على المهمة العظيمة، لكن ثمّة ما زيّن لها أنها الأجدر بهذه المهمّة، فقد كانت لديها أحلامها الفضائية ومشاريعها البحثيّة "العملاقة" الخاصة بها، فقد كانت تودّ معرفة ما إذا كانت العظام متوفّرة على الكواكب الأخرى، وقد وعدت فصيلتها بتزويدها بتقارير دوريّة عن هذا الأمر. وعندما ابتسم لها الحظّ، وعلمت أن الاختيار وقع عليها لامتطاء المركبة الروسيّة، كادت الغبطة تودي بها، ومضت من فورها لتزفّ الخبر البهيج للرفاق.

بالطبع، فرحت الكلاب كلها لفرحها، ما خلا كلبًا واحدًا يبدو أنه كان يتوفّر على قدرٍ غير يسير من الذكاء. فقد فاجأها هذا الكلب بسؤالٍ مقلق: "هل المركبة الفضائية التي ستسافرين بها من اختراعك أنت؟". سقط هذا السؤال على لايكا صاعقًا، فأصابها ارتباكٌ، وتبلبلت أفكارها في بادئ الأمر، غير أنها سرعان ما استحضرت بديهتها كاملة، وأجابت:

ـ لا أعتقد أن هذا الأمر يحوز أدنى أهمية؛ فأنا سأكون "البطلة" هذه المرّة، وصورتي هي التي ستتصدّر صفحات الجرائد وشاشات التلفاز، وليس من اخترع المركبة. انظر إلى بشر العالم الثالث، إنهم يقودون سياراتٍ ليست من صنعهم، لكنهم يُسمّون "قادة"، فهم من يتحكّمون بالمركبات ويوجّهونها حيث يشاؤون. والأمر ذاته ينطبق على مصانعهم، وطناجر ضغطهم، وعلى أغلبية أدواتهم التي يستوردونها .. القائد، يا عزيزي، هو الحلقة الأخيرة في سلسلة التصنيع والإنتاج؛ لأنه المستهدف الأخير.

قهقه الكلب الذكيّ طويلًا، قبل أن يجيب: يبدو أنك متأثرةً للغاية بالفلسفة المعرفية الثالثية، وتريدين إقناعنا بأن "الدوبلير" أهم من البطل. يا سيدتي الكلبة: لن تجني أي قيمةٍ معرفيةٍ من مثل هذه الأدوار الهامشية .. أنت لا تبحثين عن أزيد من "عظمة" شهرة زائلة، تمامًا كما يفعل الذين تتحدثين عنهم من بشر العالم الثالث و"قادته" الذين لا يقودون شيئًا في الواقع سوى قيادة التخلّف. يشترون أدوار "الدوبلير" هذه ببلايين الدولارات، ظنًّا منهم أنهم سيحصلون على "البطولة" في عالم سبقهم تكنولوجيًّا ومعرفيًّا بعشرات السنوات الضوئية. ليت هؤلاء القادة منحوا الحريات لشعوبهم، قبل أن يحشروا أنفسهم في مركبات فضائية بحثًا عن "عظمة".

استشاطت لايكا غضبًا من هذا الكلب الذي أفسد عليها بهجتها، وقالت مغضبة:

ـ سترى، أيها الكلب اليائس، أنني سأنجح بمهمّتي. وسأبرهن لك أن "العظْمة" التي تهزأ بها ستمنحني "العَظَمة". وما يدريك، فقد يأتي من نسلي من يحمل مشاريع أضخم من "العظمة"، على غرار "دورات الطقس اليومية"، وأسباب التغيرات المفاجئة في المناخات الفضائية.

لوى الكلب الذكيّ عنقه وقفل راجعًا، وهو يغمغم: بمثل الشروط التي تسافرين بها لن تظفري أنت ونسلك ولا حتّى بـ"العظْمة".

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.