البحث عن تسوية شاملة لملف السجناء السياسيين في مصر
في مثل هذا التوقيت من كل عام، يتجدد النقاش في واشنطن حول تجميد جزء من المعونة العسكرية لمصر بسبب عدم إحراز تقدّم في تحسين حالة حقوق الإنسان، خصوصا التباطؤ واتباع سلوك غير متسق في إغلاق ملف المعتقلين والسجناء السياسيين. ستنظر إدارة الرئيس بايدن في نهاية الشهر المقبل (سبتمبر/ أيلول)، في ما إذا كانت ستمنح مبلغ 320 مليون دولار من المعونة العسكرية للحكومة المصرية في إطار المخصّصات المالية لعام 2022. وقد أصدرت أخيراً 23 منظمة حقوقية أميركية ومصرية خطاباً مفتوحاً للإدارة الأميركية يطالب بحجب المبلغ بالكامل، بعدما فشلت الحكومة المصرية في الوفاء بتعهداتها في تحسين مناخ حقوق الإنسان، والتي أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال إعلانه عن مبادرة الحوار الوطني في إبريل/ نيسان 2022. وطبقاً لهذه المنظمات، في الفترة التي أفرجت فيها السلطات المصرية عن 1645 شخصاً منذ إعادة إحياء لجنة العفو الرئاسي في منتصف العام الماضي، فإنها اعتقلت 4968 شخصاً آخرين، وأقدمت على تجديد حبس آلاف آخرين من دون محاكمة. وقد طالب الكونغرس الأميركي في الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، بأن يكون تلقّي مصر 325 مليون دولار من إجمالي المساعدات السنوية التي تقدر بـ1.3 مليار دولار من المخصّصات المالية لعام 2024 مشروطاً بالإفراج عن سجناء سياسيين بارزين، من بينهم صلاح سلطان وعلاء عبد الفتاح وحسام خلاف وأنس البلتاجي.
الضغوط الأميركية على الحكومة المصرية في ملف حقوق الإنسان، حتى وإن أدّت إلى تخفيض رمزي في مبلغ المعونة العسكرية السنوية، أثبتت أنها تشكّل مصدر قلق لدى الإدارة المصرية، فتداخل المؤسّسة العسكرية المصرية في الحياة السياسية والاقتصادية المصرية يجعلها أكثر تحسّساً للضغوط التي من شأنها المساس بمزاياها. من ناحية أخرى، أصبح هناك اعتياد من الجيش المصري على الحصول على المعونة العسكرية السنوية من الولايات المتحدة، والتي ما زالت تمثل مصدراً هاماً ومضموناً بالنسبة للجانب المصري. لكن بشكل عام لم تحبّذ الإدارات الأميركية المتعاقبة استخدام هذه الأداة، لكنها تجبر عليها عادة بضغوط من الكونغرس في أثناء إقرار القوانين المالية المتعلقة بالمعونات السنوية. وفي أغسطس/ آب 2017 قطعت إدارة ترامب مائة مليون دولار، وجمّدت 195 مليون دولار من المساعدات العسكرية السنوية لمصر تحت مبرّر انتهاكات حقوق الإنسان. وبشكل خاص، طالبت الإدارة بسحب قانون الجمعيات الأهلية الجديد الذي أصدرته الحكومة المصرية في مايو/ أيار 2017، وإلغاء أحكام الإدانة التي صدرت ضد العاملين في المنظمات الأميركية في إطار القضية 173. وكردّ فعل على هذه الإجراءات، أنهت السلطات المصرية الشقّ الأميركي في قضية التمويل الأجنبي رقم 173، وسحبت قانون الجمعيات الأهلية ووعدت بوضع قانون آخر يستجيب لانتقادات منظمّات حقوق الإنسان والشركاء الدوليين. إلا أن هذه الضغوط توقفت في يوليو 2018، واستأنفت الإدارة الأميركية المعونة العسكرية للجانب المصري من دون التحقق الكامل للشروط المعلن عنها من قبل في ملف حقوق الإنسان، وهو ما اعتبره نشطاء أميركيون فرصة أضاعتها الإدارة الأميركية في ذلك الوقت، حيث كان من الممكن مع استمرار هذا الضغط إنهاء القضية 173 بالكامل.
في ظل أعداد كثيفة تم اعتقالها أو الحكم عليها حضورياً أو غيابياً يصعب التفرقة بين من استند حبسُه إلى اتهامات تعسفية ذات طبيعة سياسية أو من اتهم بناء على أدلة جادة بالدعوة إلى العنف أو ممارسة العنف
وقد اهتمت إدارة بايدن خلال عامي 2021 و2022 بملفّ الإفراج عن المعتقلين السياسيين، وإنهاء التضييق على منظمّات حقوق الإنسان. وبدأ بايدن عهده بوعودٍ لمجتمع حقوق الإنسان المصري والعالمي بأن إدارته لا تقدّم "شيكات على بياض لديكتاتور ترامب المفضل"، على حد قوله. لكنّ التطوّرات السياسية في الشرق الأوسط، خصوصا الدور الوسيط الذي لعبته مصر في أثناء العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2021، وسياق الحرب الروسية الأوكرانية عام 2022، فرضت أهمية مصر شريكا استراتيجيا في المنطقة العربية.
وبحسب مراقبين في واشنطن، شكّل الضغط الإسرائيلي والإماراتي والسعودي في الكونغرس والإدارة حائط دفاع لقبول وشرعية حكومة السيسي في واشنطن. وقد تبنّت الإدارة الأميركية قائمة تضم 16 اسماً لمعتقلين وسجناء سياسيين بارزين، ودفعت بها للطرف المصري من أجل سرعة الإفراج عنهم، وطالبت بإنهاء القضية 173 المتهمة فيها منذ عشر سنوات مجموعة من أبرز المدافعين عن حقوق الإنسان في مصر. وكان الكونغرس قد رهن مبلغ 300 مليون دولار من المساعدات العسكرية لمصر لعامي 2021 و2022 بشروط تتعلّق بحقوق الإنسان. وقد كان للضغوط التي قامت بها منظمات حقوق الإنسان المصرية، بالتعاون مع حلفائها في واشنطن، أثر مباشر في الضغط على الإدارة الأميركية لتفعيل شروط حقوق الإنسان في إطار هذه المساعدات.
وفي هذا السياق، جمّدت الإدارة مبلغ 130 مليون دولار من المساعدات في سبتمبر/ أيلول عام 2021، ثم قرّرت الإدارة في يناير/ كانون الثاني 2022 إعادة برمجة هذا المبلغ وإلغاءه كلياً من المساعدات العسكرية لمصر. وفي سبتمبر/ أيلول 2022 قرّرت إدارة بايدن مرّة أخرى تجميد مبلغ 130 مليون دولار من المساعدات العسكرية لمصر لعام 2022، معتبرةً أن ما اتّخذ من قرارات للإفراج عن المعتقلين وإنهاء التضييق على المجتمع المدني غير كافية. وفي أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي، جمّد الكونغرس مبلغاً إضافياً قدّر بـ75 مليون دولار من المساعدات العسكرية، اعتراضاً على عدم التجاوب الكامل مع مطالب الإفراج عن السجناء السياسيين. تعد المبالغ المحجوبة صغيرة بالمقارنة مع ما تحصل عليه الحكومة بالفعل من الإدارة الأميركية أو ما تعقده من صفقات أسلحة مع الدول الغربية، إلّا أنّ هذه الخطوات الرمزية، والتي يعود الفضل في تبنّيها للضغوط المستمرّة لتحالفات منظمات حقوق الإنسان المصرية والدولية والأميركية، كان لها تأثير مباشر في اتخاذ بعض التدابير الإصلاحية المحدودة داخل مصر.
شكّل الضغط الإسرائيلي والإماراتي والسعودي في الكونغرس والإدارة حائط دفاع لقبول وشرعية حكومة السيسي في واشنطن
ولا يسع في ظل الظروف السياسية والحقوقية المروّعة التي مرّت بها مصر في العقد الأخير سوى المطالبة بالإفراج عن جميع السجناء السياسيين في السجون المصرية من كلّ الخلفيات السياسية والأيديولوجية بلا استثناء، أو العفو عنهم، بصرف النظر عن الاتهامات التي وجهت إليهم أو التي دينوا على أساسها. وكما أشار الصحافي المصري عبد الرحمن فارس أخيراً في مدوّنة في "العربي الجديد": "لا يوجد شخص تم اعتقاله من 2013 وحتى الآن إلّا وكان ضمن التهم، وعلى رأسها: الانتماء إلى جماعة إرهابية". ففي ظل الأعداد الكثيفة التي تم اعتقالها أو الحكم عليها حضورياً أو غيابياً يصعب التفرقة بين من استند حبسُه إلى اتهامات تعسفية ذات طبيعة سياسية أو من اتهم بناء على أدلة جادة بالدعوة إلى العنف أو ممارسة العنف. وقد جرى اعتقال كثيرين وادانتهم، خصوصاً في السنوات الأولى التالية ليوليو 2013، في ظروف سياسية دقيقة ومربكة اتسمت بعنف ودموية شديدة من الدولة، وتسييس وتواطؤ صارخ غير مسبوق لمؤسّسات العدالة وحكم القانون. وفي مثل هذه الظروف، كما جرى في بلدان كثيرة مشابهة، يتم العفو الشامل عن جميع السجناء السياسيين بصرف النظر عن نوع الاتهامات، خصوصا أن بعضهم قد قضى بالفعل فترة طويلة في الحبس وفي ظروف احتجاز صعبة وغير إنسانية.
مع التسليم بعدم جدّية المجتمع الدولي، والولايات المتحدة بشكل خاص في الوقت الراهن بالضغط لتوسيع المجال العام في مصر، إلا أن بعض التحرّكات على الساحة الدولية، من حين إلى آخر، يمكن أن يحقّق التفاعل معها مكتسبات إنسانية للمعتقلين، والسجناء السياسيين وأسرهم. أي حديث من أطياف من المعارضة المصرية عن التفاعل مع الانتخابات الرئاسية المقبلة في مصر، أو استكمال المشاركة في الحوار الوطني من دون أن يكون هناك تصوّر واضح من حكومة عبد الفتاح السيسي لخطوات الإغلاق الكامل لملف المعتقلين والسجناء السياسيين في مصر طبقاً لجدول زمني ومعايير واضحة لا تمثل سوى عون لاستمرار جور السلطات الحالية وأجهزتها الأمنية وقمعها من دون حساب.