البحث الصعب عن حل سياسي في اليمن
الإجماع الدولي أن اليمن يعيش، منذ أكثر من ست سنوات، أخطر وأسوأ أزمة إنسانية في القرن الواحد والعشرين. أزمة تحولت، بحكم تعقيدات الوضع الداخلي، واحتدام الصراع بين مذاهب وطوائف وتيارات، إلى مأساة من نتائجها أكثر من 330 الف قتيل، ومئات آلاف من الجرحى والمصابين، وتشريد الملايين وتدمير المؤسسات والمنشآت والبنيات التحتية الحيوية وشل الخدمات. كما تفشّت الأوبئة والأمراض المزمنة بطريقة مرعبة، ما أوصل الوضعية الصحية إلى مستوى غير مسبوق من الانهيار والهشاشة، زادتها تداعيات جائحة كورونا تأزّما واستفحالا. ولم يكن أحد يتوقع أن تتخذ الحرب الدائرة بين قوات الحكومة وحركة أنصار الله (الحوثية)، ذات المرجعية الشيعية، بعدا تدميريا شاملا. وقد ضاعفت قوى إقليمية متطاحنة ومتصارعة من حدّة هذه الأزمة التي أفرزت معطيات وعناصر جيو- سياسية واستراتجية جديدة في المنطقة، حيث تقود العربية السعودية منذ العام 2015 تحالفا عسكريا للتأثير مباشرة على مجرى النزاع، ودعم الشرعية اليمنية المتمثلة في استعادة الدولة المهرّبة، وعودة الرئيس عبد ربه منصور هادي إلى العاصمة صنعاء، وذلك بناء على طلب منه، بعد فراره من إقامته الجبرية في منزله في صنعاء، ومنها إلى عدن ثم إلى الرياض.
أما حركة أنصار الله، الدرع العسكري للحوثيين، فقد تحالفت تكتيكيا، ومؤقتا، مع الرئيس الراحل، علي عبد الله صالح، الذي لقي حتفه في مواجهة ثأرية، وتمدّدت في اتجاهات مختلفة، لتفرض نفسها قوة مهيمنة على الساحة اليمنية. وبحكم القرابة المذهبية والتبعية الإيديولوجية لإيران، فقد ارتهنت الحركة للمطبخ الجيو - استراتجي لنظام الملالي في طهران، وصارت تأتمر بأوامرها وتوجيهاتها، خصوصا أنها وجدت في إيران، الحليف الاستراتيجي والمذهبي الذي وفر لها السلاح المتطور، من قبيل الطائرات المسيرة والصواريخ الباليستية. وبذلك ضمن الحوثيون غطاء عسكريا لا يستهان به في ميزان القوى الداخلي والاقليمي، وسندا دبلوماسيا، حيث لم تتردّد إيران في تبادل السفيرين معهم، ما اعتبر اعترافا صريحا بالحركة، كحكومة أملاها منطق الأمر الواقع، لتستقر في صنعاء التي أطبقت عليها سيطرتها. وما أقدمت عليه طهران في هذا الشأن لم يصدر مثله عن أي دولة. وهذا عامل كاف، لشرح طبيعة الصراع في اليمن، وتداخل خيوط هذا الصراع وتعدّد الواقفين وراءه. وتبعا لذلك، لم تخف إيران غبطتها وافتخارها بفعل تحوّل صنعاء إلى عاصمة تابعة لها، على غرار "فتوحات" أخرى تحققت لها في العراق ولبنان وسورية. وليس هناك أية مفارقة، إذا لوحظ تقاطع بين اسم حزب الله في لبنان وحركة أنصار الله في اليمن، فحزب الله بات قوة سياسية وعسكرية مؤثرة في كل القرارات والمعادلات الداخلية والإقليمية. ويتحكّم في الجنوب الذي اتخذه قلعة له. غير أن الفرق بينهما يتجلى في أن حزب الله يمتلك شرعية المقاومة والممانعة، خصوصا وأنه تمكّن من تحرير الجنوب اللبناني من قوات الاحتلال الإسرائيلية. كما أن لحزب الله امتدادات وعلاقات مع حركات وتنظيمات سياسية، في أكثر من بلد عربي وإسلامي، بخلاف حركة أنصار الله الحوثية التي نشأت على أنقاض صراع داخلي على السلطة، ولم تولد من رحم مقاومة محتل أجنبي، يجثم على جزء من التراب اليمني. لكنهما يتشابهان في ارتباطهما بالمرجعية الشيعية المركزية في طهران، وانخراطهما في أجندة النظام الإيراني، الهادفة إلى إقامة جيوب استراتيجية، تابعة له في أكثر من منطقة، لتضييق الخناق على الخصم السني الكلاسيكي، السعودية، ومن خلالها توجيه رسائل مشفرة إلى الولايات المتحدة التي تعتبر عدوا تاريخيا للنظام الإيراني.
مهما تعدّدت قراءات الأزمة اليمنية، فإن السياق التاريخي وطبيعة النظام السياسي المنهار أضعفا الأسس المؤسساتية والقانونية للدولة
ويسود الاعتقاد أن هذا التحوّل الجيو - استراتجي استفزّ واستنفر دول الخليج وحلفاءها في المنطقة العربية، كما أثار حفيظة قوى غربية، ما دفعها إلى اعتماد سياسة متشدّدة تجاه إيران، وصلت إلى حد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الموقع سنة 2015. ولمواجهة خيار التشدد والحصار والتلويح بالعقوبات، لم تتردد إيران في التنسيق مع الصين، ثم إعلان شراكة استراتيجية هللت لها وسائل الإعلام في البلدين، واعتبرتها فتحا تاريخيا غير مسبوق، وهو في الحقيقة رد صيني – إيراني على الولايات المتحدة التي اختار رئيسها الجديد، جو بايدن، الدخول في صراع شامل ومحتدم مع الصين، حتى لا تتحوّل إلى القوة الأولى في العالم، خصوصا وأنها تملك المقومات الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية والتكنولوجية لتحقيق هذا الهدف.
الأزمة اليمنية جزء من هذا المشهد العربي، المتشظي والملتهب والمفكّك، فحتى عندما تقدّمت السعودية بمبادرة لوقف إطلاق النار، وإنهاء تداعيات الأزمة، رأى فيها الحوثيون مجرد مناورة، أرادت منها المملكة الظهور بمظهر الباحث عن حل سياسي. وعوض الانتصار للحكمة والتعقل، فضل هؤلاء الرد العسكري على المبادرة السعودية، وحمل هذا الرد اسم "عملية يوم الصمود"، استهدفت فيها طائرات مسيرة وصواريخ باليستية مناطق في التراب السعودي. ونفذت هذه العملية في الذكرى السادسة لإطلاق ما تسمى "عاصفة الحزم"، العملية العسكرية التي شنتها قوات التحالف العربي عام 2015 بقيادة السعودية ضد جماعة الحوثيين التي يعد عدم جنوحها إلى السلم بغرض إثبات أنها أصبحت، بقوة الوقائع والواقع الطرف الأقوى، وأنه ترسخت في أذهان قادتها وعناصرها فكرة الانتصار في الحرب الدائرة في اليمن، وأنهم كسبوا الرهان، وقد لا يقبلون بتقاسم السلطة، على الأقل في المناطق التي يسيطرون عليها. وتبعا لذلك، اختاروا منطق التصعيد لتحسين شروط التفاوض، والرفع من سقف المطالب، على الرغم من أن الحكومة الشرعية تعتبر أنها قدّمت تنازلات كثيرة للحوثيين حقنا للدماء، وتأكيدا لرغبتها في وضع حد للحرب المدمرة.
الحكومة الشرعية تعتبر أنها قدّمت تنازلات كثيرة للحوثيين حقنا للدماء، وتأكيدا لرغبتها في وضع حد للحرب المدمرة
وفي السياق نفسه، رفضت جماعة أنصار الله مقترحًا أميركيًا لوقف إطلاق النار في اليمن، مبرّرة موقفها بأن ما لم تحصل عليه السعودية وحلفاؤها بالحرب والدمار لن يحصلوا عليه بالحوار، وأن ما سماه المبعوث الأميركي إلى اليمن، تيموثي ليندركينغ، بالمقترح لا جديد فيه، ويمثل الرؤية السعودية والأممية. وتبعا لهذا الموقف المتشدّد، الرافض خيار الحوار والسلام، يبدو جليا أن من بين الأسباب الجوهرية التي تقف خلف استمرار أزمة الشعب اليمني وتعقدها، نجد المقاربة غير الواقعية القائمة على منطق القوة والحل العسكري بديلا للحل السياسي والخيار الديمقراطي، وهذه المقاربة التي تتبناها المليشيات الحوثية، وتحرص على الإمعان والتمادي في التصعيد تخدم أهدافا وأجندة لا علاقة لها بمصلحة الشعب اليمني، وإنما تدافع عن مصالح إيران التي توظف حركة أنصار الله أداة للضغط والابتزاز، في مفاوضاتها مع القوى الإقليمية والدولية.
ومهما تعدّدت قراءات الأزمة اليمنية وتنوعت، في أبعادها وتداعياتها المختلفة، فإن السياق التاريخي وطبيعة النظام السياسي المنهار، أضعف الأسس المؤسساتية والقانونية للدولة، وعمل على إعادة إنتاج البنيات والعلاقات الاجتماعية التي تشكل فيها القبيلة بعصبتيها، العصب الحيوي والعنصر المركزي، في إدارة شؤون الدولة والثروة. وهذا ما أدّى إلى انتشار ممارسات تتعارض مع منطق دولة المؤسسات والقوانين. وقد ساهمت هذه العوامل المتداخلة والمتشابكة في التعجيل بتفكك بنيات الدولة، وانهيار الخدمات، وتناسل المليشيات والفصائل المسلحة، في مناطق كثيرة من أرض اليمن الحزين. وهذا أيضا مما جعل اجتياح الحوثيين صنعاء في سبتمبر/ أيلول العام 2014 يتم من دون أدنى مقاومة، كما كشف عن ذلك مبعوث الأمم المتحدة الأسبق إلى اليمن، المغربي جمال بنعمر، علما أنه كان يعتقد أن العاصمة كانت ستشهد حربا طاحنة، وهذا لم يحدث، لأن الرئيس الراحل علي عبد الله صالح كان متحكّما في الجيش، واستمر في التواصل مع قياداته. ولفت بنعمر إلى أن صالح كان يعرقل عملية التوافق والحوار، وكان يريد أن يتحكّم في كل صغيرة وكبيرة. وأوضح، في مقابلة أجرتها معه، قبل أيام، قناة الجزيرة، أن منح علي عبد الله صالح حينها الحصانة المطلقة، إلى جانب كل من اشتغلوا معه، كان أحد الأسباب التي أدت إلى انفجار الوضع في نهاية المطاف. علما أن الأمم المتحدة ومجلس الأمن لم يكونا متحمّسين لهذه الحصانة، بينما كان رؤساء الأحزاب اليمنية، سواء في اللقاء المشترك أو في حزب المؤتمر الشعبي العام، يدافعون عن الحصانة المطلقة لصالح.