الباشا والسياسي: الأردن والعرب في مذكّرات مضر بدران
يعدّ التعارض بين الماضي والحاضر أمراً في غاية الأهمية للحصول على وعي بالزمن، كما يرى جاك لوغوف في كتابه "الذاكرة والتاريخ"، ذلك التعارض بين واقع أردني وعربي راهن، وبين زمن عربي آلت مصائره، إلى ظروف مختلفة تماماً عما كان يؤمن به مضر محمد عايش بدران، المولود في مدينة جرش الأردنية عام 1934، والمنحدر من أسرة نابلسية الأصل. ولأن السياسي يتحدّث عن تاريخ المجتمع والدولة ومصائرهما، فإن جُلّ ما يطالعه القارئ في الذاكرة السياسية زمن سياسيّ محض، للأسف لا مكان فيه للحياة الاجتماعية والثقافية والدينية، إلّا في ومضاتٍ قصيرةٍ وتمهيدية، حين يتحدّث رجال السياسة عن حياتهم ونشأتهم الأولى، كأنها حياة مسحوبة من الوعي، ولا مكان فيها إلا لما تؤسّسه التجربة، والتي في حالة مضر بدران، تجربة موزّعة بين صنع الذات وإسهام الدولة، فقد درس على نفقة والده، واختار دمشق لأنها أقل كلفة من مصر على أسرةٍ أرسلت أولادها لتتعلم خارج الأردن، وهي بعد العام 1957، من صنع الدولة بفعل الوظيفة وتقلبات مصائرها، وخيارتها المرّة أو المريحة.
ما بين يدي القارئ مذكرات سياسية مُفصلة، لحقبة شديدة التعقيد من تاريخ الأردن والعرب خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وهي ليست يوميات، أو سيرة ذاتية، بل هي حديث مُملى على كاتب النص، خضعت لعمليات تهذيب وحذف، كون ما جاء في بعض الحلقات التي نشرت في صحيفة محلية حديثا في الذاكرة لم تعد موجودةً في الكتاب في السياق نفسه، وحين يكون الفاعل غير صاحبه فقد تخضع النسخة النهائية لعلميات حذف، غير مبرّرة مطلقاً.
مذكّرات سياسية مُفصلة، لحقبة شديدة التعقيد من تاريخ الأردن والعرب خلال النصف الثاني من القرن العشرين
ومع أن مذكرات مضر بدران "القرار" (المؤسسة العربية للنشر والتوزيع، بيروت، 2020) سجل حافل بالتفاصيل السياسية، وتتسم رؤيته بالوضوح التام في الموضوع والمصالح الأردنية، ولكنّ فيها أيضاً وعياً قلمّا كان حيادياً عند بدران، على الأقل في رؤيته للإدارة العامة في الأردن وأهمية محاربة الفساد، والنظرة إلى العدو الإسرائيلي، أو في الموقف من العراق الذي سيجعله يخوض مغامرة سياسية بالرهان على بقائه قوياً بعد حرب الخليج الثانية وخلالها عام 1991.
ليس الرجل مفكراً إصلاحياً أو أكاديميا مُسنا اعتاد الطلاب سَمْته المحبّب لديهم، وتقاليد درسه، حتى يُحاسب بأثر رجعي. وهو ليس صاحب مؤلفات، وإنما بيروقراطي عتيد، ورجل إدارة فذ. تدور مذكّراته بين عامي 1956-1989، وهي سنوات أزماتٍ محلية أردنية وعربية. بدأ بدران العمل الأمني عام 1956 في الأمن العام أيام حكومة سليمان النابلسي، الحكومة الحزبية الوحيدة في تاريخ الأردن، والتي يمر عليها في مذكراته باقتضاب، ولا تحفل منه تجربة الوحدة المصرية السورية إلا قليل القليل، متجاوزاً عن جمال عبد الناصر وحضوره الطاغي، وموقفه من الأردن، ويحصر عنايته بالمسألة المصرية، برئيسٍ رآه يحلم بتابعية أميركية لبلده فقط، كي يضمن البقاء في كرسي العرش، وهو أنور السادات، الذي هو في موضع غير ثقة عنده وعند الملك حسين.
تلطّف بدران في سرد حكاياته عن الملك حسين، رحمه الله، لكن السجال الذي فتحه على رجال الملك كبير، وليس فيه إقحام للشخصنة، بقدر ما هي رؤية مغايرة لطبقةٍ من المحافظين وأبناء رجال الإقطاع الأردني - الفلسطيني وبقايا النخب الانتدابية، للأدوار الأردنية العروبية الوطنية، ورفض لفساد رجال الملك وولاءاتهم المتغيّرة، حالما يتركون المنصب أو خلاله.
في مذكرات بدران وعياً قلمّا كان حيادياً عند بدران، على الأقل في رؤيته للإدارة العامة في الأردن وأهمية محاربة الفساد، والنظرة إلى العدو الإسرائيلي...
هي مذكّرات زمن التجديدات والمبادرات الطائشة عربياً، بين أحلام التحرير والوحدة، ومقولات "دول الطوق" و"الردع العربي"، والتي انتهت إلى اللاشيء، بل إلى الاستسلام بلا ثمن للعدو الذي استشعر بدران نهاية العلاقة معه سبيلاً موجعاً، فرفض البقاء في المشهد السياسي، وآثر الانسحاب منه، انتصاراً لمبادئ تعلم ونشأ عليها بعد النكبة على أيدي معلمين قدموا من فلسطين إلى مدينة الكرك، حيث طفولته الأولى وتشكل وعيه، فهو يكشف لقارئه أن الكرك تأثرت بالنكبة ثقافياً، إذ بدأ بعدها قدوم معلمين من فلسطين "وكانوا أكفاء"، والمقارنة كانت واضحة في مستوى التعليم الذي كانوا يتلقونه بعد ذلك، كما يقول بعد انتقال المعلمين الفلسطينيين للعمل في مدرسة الكرك "رُفع مستوانا الدراسي بشكل واضح"، حيث ترك المعلمون القادمون من فلسطين الانشغال بالشأن الفلسطيني لنظرائهم الأردنيين.
ومن الكرك، سيتجه إلى دمشق لإكمال التعليم، يحمل معه رسالة توصيةٍ من والده الفقيه، إلى "الأفندي" رفيقه بالسكن في حمص، يوم كان قاضياً في الزمن العثماني، هذا الرفيق السوري كانت السياسة قذفته إلى سدّة رئاسة الحكومة السورية آنذاك، وهو حسن الحكيم ابن الحكومة الفيصلية، ويومها كان قد غدا رئيس وزراء سورية عام 1951 في حكومته الثانية. وتطرح مذكّرات بدران عن الحياة السورية مسألة النظرة إلى التاريخ السوري قبيل الوحدة مع مصر، 1958 -1961، والجدل الذي نشب آنذاك وأثر الوحدة على الأردن، وما قدّمه بدران عن تلك الحقبة أردنياً من أحكام، يجد أخيرا أصحاب الأحكام في التاريخ الحاضر حججاً تدعم طرحهم وصوابية مواقفهم تجاه دولة وحدة كانت تريد ابتلاع الدولة التي في طريقها، وهي الأردن.
غير أن القارئ يستبصر في المذكرات أن مهمة صاحبها كانت استعادة للذاكرة الشخصية، وإنْ غير مدعّمة بوثائق أو مقارنات من مراجع معاصرة، هي متيسرة لو بذل جهد أكبر ولائق بها، على الأقل في المشاركة بين تواريخ وطنية مصرية وسورية أردنية، وكيفية تفاعل الرجل معها من خلال نشأته العلمية في جامعة دمشق، أو في موقعة الوظيفي ودوره في العلاقات المشتركة بين الأردن ومصر وسورية، وبين الأردن وفلسطين على وجه الخصوص. ولم يكن هذا التفاعل مع المسألة السورية طارئا عند بدران، بل إنه جعله يذهب أكثر في تفاصيلها، وكان الدفاع عن الدولة هاجساً عاماً، "كنت عضواً في اللجنة المركزية في الجامعة، حزتُ هذا الموقع على اعتبار أني طالب سوري ولم ينتبه أحد أو يدقق بأنني أردنيّ .. ذهبنا كمجموعة لمقابلة الرئيس شكري القوتلي..".
تبدو المذكرات أحيانا واستعادة للذاكرة الشخصية، وإنْ غير مدعّمة بوثائق أو مقارنات من مراجع معاصرة، هي متيسرة لو بذل جهد أكبر ولائق بها
وعن مصر الساداتية، وفي سياق العمل بشكل لصيق مع الملك حسين، يكشف بدران أن المخابرات الأردنية كان لها مصدر "مهم في القصر الجمهوري" في القاهرة، و"كان يرسل لنا محاضر اجتماعات الرئيس محمد أنور السادات أولاً بأول"، و"السادات لا يحب الملك الحسين"، وكما يشير المصدر: "أبلغتُ الملك حسين بذلك واستغرب من الأمر ...". وليس مستغربا على بدران أن يكشف سراً من أسرار عمله الاستخباري، الذي لا شك في أنه شمل دولا أخرى، لكن لماذا يكشفه عن السادات ومصر فقط، هل لأنه نجح في هذا وفشل في غيره، أم هي انتقائية خاصة بالسادات بوصفه المطبّع لاحقاً، وهو خيار لا يؤمن به بدران، فبدا السادات، حسب المذكرات، مستعداً للتخلي عن أي شيء للجلوس في حضن أميركا بدلاً من إسرائيل؛ وفيما بدران حسب نصه كان يُطلع الملك الحسين على تقارير التجسّس كان الحسين يقرأ ويُفاجأ. ومع ذلك، يختار مضر بدران، في تلك المرحلة، التضامن مع مصر وسورية، لأن في المسألة موضوعاً إسرائيلياً، فيلوّح هو وعدنان أبو عودة بتقديم استقالتهما، من حكومة زيد الرفاعي: "إن لم نشارك في الحرب عام 1973 إلى جانب مصر وسورية". وحسب بدران، لم يكن السادات موضع ثقة، ولم تبعث المؤشرات على الاطمئنان إليه كما يقول: "كما أن الرجل لم ينجح باختبار الثقة.. إن للسادات مشروع مختلف، ظاهرهُ الحرب مع إسرائيل، وباطنه تحسين شروط التفاوض مع الولايات المتحدة الأميركية، وظَفره بمقعد قريب من أميركا كنظام يتوسع ويبسط نفوذه".
الاشتباك العربي الكبير كان في المذكّرات في الملف الفلسطيني، فتبدو ممتلئة بقواسمها المشتركة ومحطاتها الهامة والتقييمات الأردنية الخاصة بظرفية العلاقات ومآلاتها، وهو ما برز في حديثه عن حقبة ما بعد النكسة ذات الأثر البالغ، على العرب عامة والأردن، خاصة كونه فقد فيها نصفه الثاني، وحاول الأردن أخذ حركة الفدائيين بعدها إلى مواجهة داخليه في فلسطين، "حاولنا أن نقول للفدائيين إن المعركة صعبة..."، وكان تعامل الأردن مع الجبهة الشعبية جيدا "كانت علاقتنا جيدة". وآنذاك بدأت المصارحة مع ياسر عرفات "ليوجّهوا جماعتهم هناك وليس هنا"، بيد أن الطريق كانت تسير بالبلد إلى مواجهاتٍ مفجعةٍ عرفت باسم "أيلول الأسود".
لا يخفي بدران أنهم كمخابرات تعاونوا مع الفدائيين وتهريبهم للداخل "ليصلوا إلى القدس". وفي هذا الوقت، كانت سورية تحيك مؤامراتها على الأردن
ومع ذلك، لا يخفي بدران أنهم كمخابرات تعاونوا مع الفدائيين وتهريبهم للداخل "ليصلوا إلى القدس". وفي هذا الوقت، كانت سورية تحيك مؤامراتها على الأردن، "في أحد الأيام من عام 1968 "حاول فصيل الصاعقة السورية اقتحام مقر مديرية الشرطة في عمّان"، وفعلاً دخلوا إلى عمّان بأسلحتهم وسياراتهم..". ووسط هذه الظرفية القلقة، لم يكن الأردن محصّنا حسب مقولات بدران، فيروي محطّات من التوتر والاستهداف للأمن الوطني، والشخصي له بصفته مدير مخابرات، وكانت الأمور الأمنية تشير إلى الأسوأ. ولعل شخصية بدران كانت مقبولة لدى بعض المنظمات، فهو على صلةٍ طيبةٍ بعمليات الكفاح المسلح، سمير الخطيب. أما ياسر عرفات فهو يراه "رجلاً مناوراً" لكنه كان قادرا على التعامل معه، وهو يصرّح بذلك "لقد كنت مع أبو عمار دائم الجدال .. وظلّ يتهرّب من مصارحتي، بينما كنت احتاط له دائماً بالمعلومات من دون أن أتركه يمارس مراوغته..".
وعن الخليج العربي، واضح أن بدران كان يرى في الرياض "الدار الكبيرة" يصل إليها ويفاوض قادتها وينتظر دعمها حدّ المساومة على ثمن للديمقراطية المستعادة عام 1990، وإن لم يكن الدعم سعودياً كان بدران يراه عراقياً، بيد أن هواه الشخصي أقرب للعراق، وهو وإن أنصف، في مجمل حديثه، دور السعودية في إسناد الأردن اقتصاديا، إلا أن بغداد كانت بديلاً موضوعياً عن الرياض، وليس دمشق في أمر المساعدات.
كانت مأمونية بغداد والرياض على الأردن عالية، وليس منها خوفٌ على استقرار الأردن، لكن في الحالة الدمشقية، بدت علاقة الأردن في حالة حذر وريبة وتخوّف، وهذا ما تحقق في الأزمات التي وقفت بها بغداد والرياض لصف الأردن، إلا أن حرب الخليج الثانية واجتياح العراق للكويت، أحال الأردن إلى اللعب منفردا مع العراق، ومواجهة عقوباتٍ دوليةٍ على ذلك الموقف، وقذفت سورية ومصر ليحلا بديلا عنه مع الرياض وعموم عواصم الخليج.
ومن الناحية الخارجية، تبدو مذكّرات بدران مهمة لدراسة العلاقات الأردنية مع جيرانه العرب، ومع حليفه الغربي الأميركي خصوصاً، لكنها مهمة جدا في راوية الداخل الأردني، وخصوصا الطريق إلى الانهيار الاقتصادي نهاية الثمانينيات، والوصول إلى أحداث هبّة نيسان (إبريل) 1989 ومسؤولية حكومة زيد الرفاعي عن ذلك الانهيار.