الانقلاب على القاضي طارق البيطار
تمتلك السلطة في لبنان، بمختلف أركانها السياسية والقضائية والعسكرية، دائماً في جعبتها ما يكفي لتؤكد مدى إيغالها في دماء اللبنانيين. ما يجري مع المحقّق العدلي في انفجار مرفأ بيروت، القاضي، طارق البيطار، المثال الأكثر صفاقة. بعدما فشلت تهديداتها بـ"قبعه"، ووضع هو بنفسه حدّاً لـ"كفّ يده" عن التحقيق، والذي استمر أكثر من عام، اختارت هذه المرّة، عبر النائب العام التمييزي، غسّان عويدات، تحويله إلى مدّعى عليه وممنوع من السفر، وفوق ذلك كله، عمدت إلى إطلاق سراح جميع الموقوفين في قضية المرفأ الذين تشير التسريبات في الساعات الماضية إلى أن واحداً منهم على الأقل تمكّن من مغادرة لبنان، على الرغم من قرارات منع سفر بحقّ المفرج عنهم.
يمكن القول إن ما جرى بمثابة انقلابٍ فجّ ومحاولة وضع المسمار الأخير في نعش التحقيق الذي لم تُرده هذه السلطة منذ يوم الانفجار، لأنها ببساطة ترفض أن تتحمّل أي مسؤولية عن الإهمال والتقصير الذي قاد إلى لحظةٍ تحولت فيها العاصمة إلى كتلةٍ من الدمار.
ليست كل هذه التطورات مفاجئة، بعد كل المسار الذي سلكته هذه السلطة لعرقلة التحقيق، وصولاً إلى التلويح بالفوضى والفتنة. ومع ذلك، يبقى ما يحدُث مؤلماً، يصعب على من يتعاطى مع هذا الملف بصفته متضرراً تجاوزه. كل من كان خارج العاصمة في لحظة الانفجار سمِع بالخبر. لكن من كان داخلها شعر بالانفجار وظنّ أنه في محيطه إن لم يكن داخل المبنى الذي يقطنه. وبالتالي، القول إن صوت الانفجار ومشاهده استوطنت في بيروت ليس مبالغة.
كان التحقيق يمثّل محاولة للحصول على بعض الإنصاف عقب الجريمة. لذلك كل تحرّك للأهالي، وكل صرخة غضب بوجه الإهمال وسياسة التسويف كانت تمثّل كل من شكّل الانفجار لحظة التحول في حياته، سواء لكونه خسر فرداً من عائلته أو تعرّض لإصابة جسدية أو أذى نفسي. ولكن حتى "بعض الإنصاف" تقول السلطة إنه غير مسموحٍ به. الجريمة التي ارتُكبت لا تستحقّ، فالقيادات المتورّطة في الانفجار، بسبب مواقعها العسكرية والأمنية وفي المرفأ، ممنوعٌ محاسبتها لأنها تحظى بغطاءٍ وحماية حزبية، وفوق ذلك قضائية. هذا من دون التوقّف عند الفرضيات المتعلقة بسبب وصول شحنة نترات الأمونيوم التي انفجرت إلى بيروت ولصالح مَن، ولماذا تم الإبقاء عليها سنوات.
تصعُب قراءة أي مسار ستأخذه الأحداث، بعدما نقلت السلطة السياسية المعركة إلى قلب القضاء وتولى النائب العام التمييزي، وهو مدّعى عليه من القاضي طارق البيطار، تنفيذ كل ما تريده السلطة، وتحديداً لجهة اقتلاع البيطار من التحقيق، ومسارعة الأجهزة الأمنية لتنفيذ أوامر عويدات وتجاهل كل طلبات البيطار. حتى اللحظة، لم يستسلم المحقّق العدلي، ويصرّ على أنه سيواصل عمله حتى إصدار لائحة الاتهام في الانفجار. إن تُرِك في شأنه للوصول إلى هذه المرحلة، فإن أغلب الظن أن هذه اللائحة ستتحوّل إلى لائحة اتهام معنوية فقط، من دون أي فرصة لتنفيذها، طالما أن الأوضاع في لبنان لن تتغيّر. وتغييرها لا يبدو قريباً، فتفجّر المعركة مع البيطار يأتي في لحظة انهيار كل ما له علاقة بالدولة. انسداد سياسي يفرض نفسه، فحتى اللحظة تمنع الخلافات بين القوى السياسية من التوافق على انتخاب رئيس جديد للجمهورية. ويترافق هذا الفراغ مع حكومةٍ بالكاد تسيّر أعمالها، فيما القضاء قاب قوسين من أن يشهد انفجاراً من داخله، وفي الوقت الذي تشهد العلاقة بين وزير الدفاع وقائد الجيش أزمةً لم تعد مكتومة. ويضاف إلى ذلك تفاقم الأزمة الاقتصادية والمالية مع انهيار إضافي للعملة، في ظل وجود حاكم مصرف مركزي لا يجرؤ أحدٌ على المسّ به رغم كل فضائحه. ويعد هذا الوضع الأنسب للقوى الحاكمة، لأنه يتيح لها التمادي في مخطّطاتها بانتظار تسويةٍ شاملة تبدو مؤجّلة.