الانتقام من الماضي

28 مايو 2024

(جاسم محمد)

+ الخط -

كان إعلان ولادة الدولة العراقية الحديثة، مع قيام النظام الملكي في 1921، يحمل معه تحدّياً لدفع العراق نحو هُويّة مُستقلّة بعد قرون طويلة من التبعية لدولٍ أخرى، مادّياً وثقافياً، ولا سيّما للدولتَين العثمانية والصفوية.
كانت نقطة الارتكاز لإعادة تعريف العراق دولةً حديثةً ضمن العالم المعاصر، انتقاء الاتصال بمرحلة مضيئة في تاريخ العراق، ألا وهي العهد الأول من الدولة العباسية، مع أبي جعفر المنصور، مؤسّس بغداد، ثمّ العهد الذهبي مع هارون الرشيد، ثمّ ولده المأمون، مؤسّس بيت الحكمة، ورائد حركة الترجمة إلى العربية. وليس غريباً بعد ذلك أن نرى هذه الأسماء الثلاثة تتكرّر كثيراً في يافطات التعريف لطرق ومؤسّسات عراقية حديثة.
كان الملك فيصل الأول يرى نفسه امتداداً، بشكل ما، لهؤلاء الخلفاء الكبار، وأنّه، مثلما كانت بغداد في تلك العهود الذهبية موئلاً للتنوّع والتعدّد الثقافي والانفتاح الاجتماعي، فإنّه سيكمل هذا المشروع، ويجعل بغداد مكاناً للأصالة الممتدّة مع التاريخ الاجتماعي والديني، والمعاصرة، التي تنفتح على العالم الحديث. كان هذا الربط منطقياً، خصوصاً أنّ الملك فيصل الأول يشترك مع العباسيين في الانتماء الهاشمي، واحترام غالبية الشعب العراقي من العرب والكرد والتركمان، وغيرهم، للأصول الهاشمية. كان الاهتمام بهذه الشخصيات التاريخية لأنّها شخصيات سياسية، ارتبطت بالبناء والتنمية والتحديث والانفتاح على العالم، لا لأنّها تنتمي إلى طائفة أو عقيدة مُحدّدة. وسنقوم بإسقاط متعسّف إن تعاملنا مع الانحيازات المذهبية والدينية في التاريخ وفق فهمنا المعاصر، فهذه الانحيازات أنتِجَت في بحر الأربعمائة سنة الأخيرة، والأشكال المعروفة، حالياً، للطوائف والمذاهب لم تكن بصورتها ذاتها قبل هذه المدّة، وكانت أقرب إلى الاختلافات المدرسية من جانب، وإلى التيّارات السياسية من جانب آخر. وكان من الطبيعي، في تلك الأوقات، أن يُعدّل شخصٌ من قناعاته المذهبية والفكرية أكثر من مرّة في حياته، من دون أن يستفزّ ذلك الآخرين. إنّ التاريخ تشكّل وانتهى، ومن الصعب إجراء تعديل عليه إلا من زاوية إعادة التأويل والتفسير، أمّا الوقائع فقد خطّت بمداد الزمن وجفّت وانتهى الأمر، إن كان لنا أن نثق تماماً بما خطّه المُؤرّخون.
كان ذهاب الملك فيصل، ومستشاروه، إلى الماضي، وتقليبه، ومحاولة تجذير الهُويّة العراقية المعاصرة في بعض مفاصله وحقبه، يمثّل استجابة لتحدّيات معاصرة. لم يذهب إلى التاريخ للنزهة، أو لانحياز متعصّب مسبّق، وإنّما لأنّه يريد الانطلاق إلى المستقبل. وأحسب أنّ هذا الهدف ما زال راهناً وحاضراً أمام صنّاع القرار في العراق، والمخطّطين لسياساته. ليس من المعقول العبث بموجودات التاريخ من دون العناية بالمستقبل. ستكون رحلة انتحارية أن تَنْزِل إلى بئر الماضي من دون حبل ممدود قبلها مع المستقبل. من حقّ المجتمع ونخبه، تحت مظلّة حرّية التعبير والتفكير، أن يراجعوا التاريخ وأن يتبادلوا وجهات النظر المتعارضة بشأنه. ولكن، من الخطر أن يندرج صنّاع القرار بسجالات من هذا النوع، توحي للجمهور العام بانحيازات مسبقة، ومحاولة فرض قراءة معيّنة للتاريخ على الجميع، وأنّ عليهم أن يتقبّلوها من دون نقاش. فهذا شأن الأنظمة الاستبدادية، وليس من شيم النظم الديمقراطية الحديثة.
ما هو أخطر أن ينجرّ صانع القرار السياسي إلى الشعبويات، ويدخل في مزايدات على خصومه، مفجّراً الأجواء العامة بتوافه الأمور والقضايا، في بلدٍ يرزح تحت أطنان من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية، ولم يصل فعلاً إلى حالة من السلم الاجتماعي، والمصالحة بين جميع فئات المجتمع.
تاريخ العراق مليء بالآلام والمآسي، ومليء، أيضاً، باللحظات المضيئة، وهو كلّه، بأشيائه السيّئة والجيّدة، لا يمكن أن ينتظم في قصّة متماسكة واحدة. ومع أيّ نظرة إلى الماضي سنجد أفراداً من كلّ الخلفيات الاجتماعية والعرقية والطائفية قاموا بأعمال جيّدة وأخرى سيئة. ولكن، حتَّى نُقدّم قصّة للأجيال الجديدة تُحرّض على التطلّع إلى المستقبل، من الضروري ألا يمنحنا السياسي الشعور بأنّ لديه مشكلة مع التاريخ، وأنّه يريد الانتقام من شخصيات في الماضي، وأنّ هذا هو الهدف من صعوده بأصوات الناخبين إلى مجلس النوّاب، وليس معالجة المشكلات الراهنة التي تتزايد كلّ يوم إن لم يكن هناك سياق منتظم من المعالجة الجدّية والصادقة.