الانتخابات ثورةً مضادّةً على الطريقة اللبنانية

21 ابريل 2022

(Getty)

+ الخط -

كانوا قلباً واحداً في أثناء الثورة. وخلال الإعداد للانتخابات النيابية تفرّقوا شرّ تفرقة. صاروا مجموعاتٍ متناهية الصغر، يرأسها وجه أو "شخصية"، فتنازعوا، وانهالت عليهم اتهامات النرجسية: متكبّرون، مغالون بتقدير "إنجازاتهم"، غارقون في أوهام تفوقهم وندْرتهم. شديدو الإيمان بنبوغهم، وبحقهم بكل أشكال الرئاسة. وهم بهذه "العدّة" الثمينة يواجهون سلطةً موحّدة، أو ساعية بنجاح نحو الاتحاد.

معلّقون أكثر رحمة قالوا إن الموضوع ليس "شخصيات"، إنما "أوضاع". المعارضة الثورية مشرْذمة إلى هذا الحدّ، لأنها لا تملك مشروعا سياسيا متكاملا، وقيادة وهيكلية واحدة وخريطة طريق. فلم يصيبوا، هم أيضاً. لأنهم حوّلوا الموضوع إلى ما يشبه "البيضة أو الدجاجة". إذا كانت تنقص المعارضة "الثورية" هذه الأشياء الثلاثة، فأضعف إيمانها أن تكون موحّدة لكي تحصل عليها. .. حجتا النرجسية ونقص البرنامج والقيادة هما نتيجتان لا سببان.

الذي شرْذم المعارضة الثورية كل هذا التشرْذم هو الكيفية التي اشتركت فيها بالانتخابات النيابية، والتي تجسّدت في نظرتها إليها: يخوض مرشّحوها الانتخابات لـ"ينجحوا" في النَيل بكم من المقاعد. وهذه "الواقعية" لا تترجم في حملتهم إلا وكأنها ركضاً حثيثاً نحو السلطة. كأن هذه الأخيرة هي أولويتهم.

ومن أجل هذا الهدف غير السرّي، يقدّمون تنازلاتٍ للسلطة الحاكمة، بقبولهم بشروطها ومنافستها على ملعبها. يرضون بالعمل في القانون الانتخابي ذي العيبين القاتلين للتمثيل الصحيح: أن يكون المرشّح ممثلاً لأبناء طائفته وحسب، وأن يكون قانون النجاح مفصّلا على قياس مرشّحي السلطة. وهم أصلا تناتشوا عليه أشهراً طويلة قبل أن يقرّوه. ثم أن يكون المال الانتخابي، الذي لا يملكونه، المحرّك الأساسي، لا بل الدماء التي تمدّ شريان التصويت بالأرقام من المرْتشين، رشوات متنوّعة اللون والحجم. أي ما يسمّى باللغة الفظّة "شراء الأصوات". وما تنْعشه الرشوات من زبائنية عتيقة، متجذّرة، لا يملك مرشّحو الثورة أدنى إمكانية لمنافستها، لو أرادوا. يقبلون، ولا يتفاجأون بتعرّضهم للضرب بالحجارة على يد مليشيا السلطة، لمنعهم من القيام بأنشطة انتخابية، كما حصل السبت الماضي في الصرفند جنوب لبنان. وهذا أخفّ أنواع القمع، وأقلّه ضرراً. بل ربما ينفع. ونحن لا نحسب هنا القمع الصامت، الناعم، الكواليسي، الذي يسلك دهاليز المذاهب والعشائر وقطّاع الطُرُق والعائلات والزواريب والعلاقات الشخصية والمهنية .. إلخ.

المعارضة الثورية مشرْذمة، لأنها لا تملك مشروعا سياسيا متكاملا

فوق ذلك، المرشّح الثوري، عندما يعلن عن ترشّحه، تراه يتحوّل إلى طالب القبول من الآخرين، بأن يصير مالساً، مريحاً، متشمّع الوجه، مسيطرا على تعابيره. تتغير شخصيته الأولى، ويصبح كائناً محبوباً، مقبولاً من بيئته. تشعر وهو يتكلّم وكأنه ثوريٌّ تائب، أو ثوريٌّ مهذّب، يميل ميلاً تلقائياً نحو "الصواب السياسي". وميزته الأقوى أخلاقياته: نزيه، شفّاف، عالم بالأشياء، يده نظيفة، صادق، ظَلَمته المصارف، متخصّص في هذا أو ذلك من التخصصات الرائدة .. إلخ.

ومن أوجه هذا الصواب أنه يطرح "برنامجا"، هو ضد السلطة القائمة. صحيح، ولكن لسانه، مثل لسانها، غارقٌ في العموميات. وباستثناء مرشّحين نادرين جداً، نرى الإعلان عن اللوائح لا يختلف عن بعضه، ولا يختلف أيضاً عن برنامج لوائح السلطة. مثل تطبيق الدستور واستعادة الدولة وإعادة تكوين السلطة، واسترداد أموال المواطنين، وتحقيق العدالة والمساواة والإصلاحات البنيوية الاقتصادية الاجتماعية، وتطبيق خطة طوارئ اقتصادية واجتماعية ومالية .. إلخ. وهذه نقاط لا ينازعهم أهل السلطة عليها. جميعهم، من أقواهم إلى أضعفهم، يكرّرون الكلام نفسه. لذلك عندما يتكلّم المرشّح الثوري تبدو لغته وكأنها موازية، مُستعارة، ذات سمعة ورنّة مطلوبتين. ولكن كيف؟ كيف يطبّق هذا "البرنامج"؟ لا جواب طبعاً. لا عند مرشّحي السلطة، ولا مرشّحي الثورة.

والنتيجة اختراقات يقبل بها الثوار، اعتقاداً منهم أنهم بذلك إنما "يكسبون" الجمهور، أي "كم صوت إضافي". أكثر اللوائح الثورية نضجاً وحكمة تلك التي استطاعت أن تتجاوز تبعْثر المجموعات الثورية، أعني لائحة الجنوب الثالثة، وتجربتها محمودةٌ من نواحٍ عدّة. ولكن هذه اللائحة، على نظافتها، أدرجت في لائحتها مرشحيْن: الأول كانت له مواقف مؤيدة للممانعة، لم يتراجع عنها مثلاً، نظراً إلى أن اللائحة، على تنافس حزب الله وحركة أمل على جمهورٍ مؤيدٍ لهما بمجمله .. والثاني، مرشّح ينتمي لمجموعة يرأسها وزير سابق، عونيٌّ على ممانع، تسلّق على سلم الثورة ونجح.. وعلى الرغم من أن اللائحة تنافس حزب الله، إلا أن للساهرين عليها خطابا علنيا يقول إننا لا نريد أن نستفز حزب الله، لكي لا ينْفر منا الناس..

الثوار قد ينالون بضعة مقاعد. وتربح أحزاب السلطة. وبذلك، يكونون قد شاركوا في إضفاء مزيد من الشرعية على سلطةٍ منهارة، وفي هزيمة للثورة

ولتبييض صفحتهم الجنوبية، منعاً لاتهامهم بالخيانة أو العمالة للعدو، يدرجون "المقاومة" بنداً ضمن رؤيتهم، "يعترف بحقّ اللبنانيين في مقاومة العدو الإسرائيلي، وأي عدو آخر بشتّى الوسائل المعترف بها دوليًا". وهذا ما دفع إلى نقد هذا البند تحديداً، باعتباره تطبيعاً مع خطاب حزب الله، وأنه "يعدّ تنازلاً" عن المبادئ من أجل مصالح انتخابية، أو "ترشّحاً تحت سقف حزب الله". فكان جواب أحد كتّاب اللائحة أن استبعاد المرشّح الممانع، أو تبنّي خطابٍ يعارض سلاح حزب الله "يسهّل على حزب الله إدارة معركةٍ يفوز بها". يعينه على موقفه من أن "أشد أعداء حزب الله تطرّفاً لم يجرؤ ولم تصل به الشجاعة الكلامية إلى حد أن يقول: أنا ضد مقاومة إسرائيل". واصفا هذا النقد بـ"الغباء في التعاطي مع شعبٍ فخور بما أنجزته مقاومته الاحتلال منذ سبعينيات القرن الماضي"، خاتماً بتكرار "هذا غباء سياسي!". (و"تأييد المقاومة" بدل "مناهضة حزب الله" تميمية المواقف المُغمغِمة حول سلاح "حزب الله").

وهذا المفهوم للغباء أو الذكاء السياسي لا يختلف عما يتبنّاه السياسيون اللبنانيون الأقحاح، الذين ساروا كيلومترات بسياراتهم وهم يسايرون قواعدهم، يضحكون عليها، يشدّون من عصبها، يخترعون لها أمجاداً ويشبعونها وعوداً عن "البناء" و"الإنقاذ" و"التغيير"، وصيانة الدولة وتطبيق القوانين .. فيما هم ينسفون البلاد بطريقةٍ منهجية. فإذا نالَ هذا المرشّح الثوري الموالي للممانعة مقعداً في البرلمان، وتعرّض للترغيب أو الترهيب، لكي يضم صوته إلى صوت محوره.. ماذا سيفعل هو؟ وماذا سيقول عنه رفاقه؟

نحن هنا في صميم صناعة الرغبة الجامحة بالسلطة. هذه الصناعة تجرف في طريقها النساء، اللواتي كنّ رائداتٍ في الثورة. إلى حدّ أنها سميت باسمهن: "الثورة أنثى!". هل من يتذكّر؟ هل من يتذكّر أن الثورة أطلقت المطالب النسائية الجامعة لكل اللبنانيات؟ أي الحقّ بالجنسية لأبناء غير اللبنانيين، بتعديل وأحياناً تغيير قوانين الأحوال الشخصية المذهبية الظالمة، والعنف ضد الزوجات.. بل من يتذكّر معركة السلطة نفسها ضد النساء والكوتا السياسية؟ وقد دامت هذه المعركة دقيقتين، رماها النواب بعد ذلك في مزْبلة المشاريع المؤجّلة.

المرشّح الثوري، عندما يعلن عن ترشّحه، يتحوّل إلى طالب القبول من الآخرين، بأن يصير مالساً، مريحاً، متشمّع الوجه

ومع ذلك، لا أثر للنساء في لوائح الثورة. السبب؟ وعوارض التوق نحو السلطة التي تظهر في سيماء المرشحين، إذ يتخيّلون أنفسهم وقد فازوا بمقاعدهم. وفي مقدمة هذه العوارض: إحياء الهرمونات الذكرية، والعَصَب النرجسي، وحب الامتلاك.

هكذا، ابتعدنا كثيراً عن أهداف الثورة. والمشكلة أن هذه الانتخابات قد لا تحصل. ولكنها إذا حصلت، والثوار ما زالوا على النفَس ذاته، فإنهم قد ينالون بضعة مقاعد. وتربح أحزاب السلطة. وبذلك، يكونون قد شاركوا في إضفاء مزيد من الشرعية على سلطةٍ منهارة، وفي هزيمة للثورة. وبذلك تكتمل حلقات الثورة العربية المضادّة. بعد الربيع العربي، و17 تشرين موعدها اللبناني، تمكّنت غالبية قوى الثورة المضادّة من أن تسحق الثورة. تونس، مصر، سورية، اليمن .. والآن لبنان، جاء دوره.

هل كان يمكن للثوار أن يفعلوا غير ما فعلوه؟ كلا. إنهم محكومون بسياقهم، بإرثهم السياسي، بطوائفهم. كان يمكن لتجربة الثوار مع الانتخابات أن تضع ربح مقعد نيابي في آخر أجندتها. وأن تكون أولويتها في حملتهم إطلاق نقاش واسع، نخبوي شعبي، ومن دون أقنعة طلَب الرِضا .. حول أوسع ما يواجهه مصير لبنان الآن وأعمقه وأخطره.