الانتخابات اللبنانية قضيةً عائليةً أيضاً
أخرجت الحملة الانتخابية في لبنان ثلاثة اسكتشات كوميدية سوداء لا تُنسى. الأول: المرشّح الوريث، أباً عن جَد، يعلن لأنصاره أنه لن يَعِدهم بشيء، لا بتحقيق مطالب ولا أشياء أخرى من هذا القبيل، كما يفعل غيره من السياسيين .. سيكون صادقاً معهم. لن يعِدَهم بشيء، لأنه لو فعلَ ولم يتمكّن من تحقيق هذه المطالب فلن ينتخبوه ثانية. الثاني: المرشّح الوريث أباً عن جَد، وفي أثناء مهرجان خطابي حاشد، وكراسي مصفوفة ومكبّرات الصوت حولها، يصعد الوريث إلى المنصّة، يتناول ورقة كانت موضوعة على طاولتها، ويبدأ قراءتها، بحماسة من يريد أن يبرهن عن اهتمامه بها. ولكنه بعد لحظاتٍ يلاحظ أن هذه الورقة مكتوبةُ لعريف المهرجان، فيعتذر للجمهور، يسحب الورقة ليسلّمها للعريف، ولتظهر كلمته المطبوعة من بعدها، فيقرأها بنوعٍ من الانشراح، كمن أفلتَ من مصيبة. الثالث: مهرجان مخصّصٌ لمرشّحة، هي وريثة زوجها المتوفى. عريف المهرجان يلقي كلمته. ولكن ابن الوريثة، المراهق، بهندامه الطائش، يصعد إلى المنصّة، يطرد عريف المهرجان وينتزع منه الميكروفون. ثم يبدأ الكلام، أو بالأحرى التلعْثم بالكلام: "أريد أن أقول .. أريد أن أقول .. إنني .. إنني .. هنا الآن .. لأطلب منكم .. أطلب منكم .. أن تصوّتوا .. أن تصوّتوا .. لوالدتي.... لأنكم .. لأنكم .. إذا صوّتوا .. إذا صوّتوا .. لوالدتي، فتكونوا بذلك .. كأنكم تصوّتون .. لوالدي الراحل .. فلان الفلاني". وعيون أمه شبه الدامعة، تبتسم فخراً وفرحاً.
بوسعكَ القول إن حملة الانتخابات شهدت تكاثر الورثة الذين يحصلون منذ الصغر على بركة آبائهم وتواريخ ولاداتهم، بأنه مكتوبٌ على أجبنتهم أن يرثوا مقاعد والديهم النيابية. وكله تحت شعارات من نوع: "الوفاء لـ...."، "حامل الأمانة"، "صاحب الشعْلة"، "إفادة الوطن"، "استكمال مسيرة النضال"، "دماء الشهيد" .. وغيرها مما لا يُحصى من كلام تثبيت الوريث على عرش المقعد النيابي الذهبي.
الورثة يختلفون بالطبائع، والحظوظ، فهناك القدماء من الورثة، وليسوا أمهرهم على كل حال. وهناك الجدد الذين لم يولدوا بعد
عدد الورثة مهول. يدور حول نصف أعداد المرشّحين. وربما يكونون أكثر. لأن هناك من يعدّ ابنه، ولم يحن موعد قطافه بعد. وهناك من يرث مقعداً عن طريق قرابة ثانوية، أو معقّدة، لا يمكن إحصاؤها على وجه الدقة، إلا ببحث ميداني دقيق. أما "أقنية" الوراثة، فعديدة: أولها وراثة الأب، الشهيد أحيانا. ومن بعدها، وراثة الأخ، وراثة العم، والخال، وراثة والد الزوجة، زوج الأم، أو الزوج، وهو حيّ، أو ميت. وفي الحالة الأخيرة، إذا كان ابنها، الوريث الطبيعي تحت السنّ، تكون هي الوصية عليه، تحجز مقعده، إلى حين "نضوجه". وإذا لم تنْجب من زوجها، فترثه إلى الأبد، حتى وهو على قيد الحياة.
"الفاشلون" من بين هذا النوع من الورَثة قلائل. من بينهم كارلوس إدّه، ابن أخي ريمون ادّه، زعيم حزب الكتلة الوطنية، الذي قدِم من البرازيل، مسْقط رأسه، لاستلام "الأمانة"، لكنه كان حضارياً، لم يتحمّل نِفاق السياسيين اللبنانيين ورثاثتهم، فطَفَشَ من لبنان، وسلّم الحزب الذي أسّسه عمّه إلى مجموعة من الشباب الطموح. ومن بين الفاشلين أيضاً داني شمعون، ابن كميل شمعون. الذي فشل، في نهاية الحرب الأهلية، بحماية نفسه من الاغتيال بكواتم الصوت، هو وجميع أفراد عائلته، ولم ينجُ من هذه المجزرة سوى ابنة واحدة. حاولت، بعدما كبرت، أن ترثه، ولم تفلح.
والورثة يختلفون بالطبائع، والحظوظ، فهناك القدماء من الورثة، وليسوا أمهرهم على كل حال. وهناك الجدد الذين لم يولدوا بعد، أو لا يزالون في الحضانة، أو في طور التدريب، سيتقدّمون على الأرجح في الدورة المقبلة. وثمة استثناءات هنا أيضاً. أهمها "الثنائي الشيعي"، حركة أمل وحزب الله. تمكّنا من طرد الإقطاع السياسي، العريق بتوريثيته، والجلوس مكانه. لم ينجبا ورَثة سياسيين على الطراز اللبناني. وهم يفتخرون بذلك، مطلقين العنان لشعبويتهم، بأنهم "يحبون الشعب"..
توريث الأبناء بخيرات المقعد النيابي من ركائز نظامنا السياسي في لبنان. أي تعديل فيه، من تقنينه، أو منعه، سوف يزلزل الأرض من تحت أقدامه
ولكن مهلا: ليس لحركة أمل وريث معلَن، رغم تجاوز رئيسها، نبيه برّي، الثمانين من العمر. والسبب صراع كواليسي على الإرث بين ابنه البكر عبد الله وابنه الأصغر باسل. الأول من زوجته الأولى، والثاني من زوجته الثانية رندة. صراع تقوده هذه الأخيرة، لتوريث ابنها باسل. ولم تُحرز فيه أي تقدم. أما حزب الله، فالقرار ليس بيده. القيادة الإيرانية هي التي تأخذه، فتسمّي "الأنجح" في توكيله إدارة مشاريعها الإقليمية. ومع ذلك، عيّن الجمهور الافتراضي للحزب وريثاً "رمزياً"، يكاد يكون روحياً: إنه هادي نصر الله، نجل حسن نصر الله. وتعليقاته على المواقع الاجتماعية، يذيعها جمهور الحزب، مسْتحسناً، مهلّلاً، ويعاملها الإعلام بصفتها رسالةً لا يريد حسن نصر الله أن يعلنها صراحة، فيعهد إلى ابنه تسريبها على أوسع نطاق. ويكفي ان ينزلها هادي نصر الله، حتى تضجّ بها الدنيا.
و"الثنائي" أسقط الإقطاع السياسي، وأحياه في آن. وكان هذا الإقطاع يصادر الأراضي، يشغّل الفلاحين عليها بأجورٍ بائسة، يقرّر حياتهم وموتهم. يقهرهم، يجوّعهم، يُخرس، من المهد، أية مبادرةٍ صادرةٍ عنهم، يسلط السيف فوق رؤوسهم، يبتزّهم، يضحك عليهم، يسْتَحْمرهم. الفلاحون بإمرته هم في مرتبة وسطى بين العبيد والأقِنّة (جمع قِنّ). والخروج عنه بمثابة التعرّض للجوع والعطالة والموت. وإذا وضعتَ التوريث جانباً، سوف تلاحظ أن "الثنائي" أسقط أسلافه من الإقطاعيين، وأعاد إليهم الحياة بحكمه وممارساته. على طريقة موت الملك: "مات الإقطاع! عاش الإقطاع!".
توريث الأبناء بخيرات المقعد النيابي من ركائز نظامنا السياسي في لبنان. أي تعديل فيه، من تقنينه، أو منعه، سوف يزلزل الأرض من تحت أقدامه. فهو، أي النظام، يرعى تأبيد نفسه عبر حمايته من دماء شابةٍ عن حق، وليست شبابا يتدثرون بعباءة الشيوخ، ويتزيّنون بعمرهم، تزيُّن المجوهرات والمساحيق. لذلك، إذا كانت دورة اليوم الإنتخابية قد حشدت أعداداً إضافية من الورَثة السياسيين، فإن الدورة اللاحقة ستتجاوزها. ربما يحتلّ الورَثة ساعتها "ثلثي" المقاعد، ويصيرون هم الحكام "الرسميين"، المعترف بهم دولياً. إذا صحّ هذا "التوقّع"، فنكون بذلك غطسنا حتى أذنينا، من دون وعي أو قصد، في أحضان نظام الإعتباط والفساد والقتل البطيء. وهو، في المقابل، يكون في حالة الدفاع عن وجوده.
والتوريث السياسي صاحب تاريخ في لبنان. منذ الاستقلال، بعد الانتداب الفرنسي، وقبله بقرون، وهو مكتوبٌ له الحياة؛ على الأقل، بالذي شاهدناه سابقاً ولا نزال نشاهده اليوم، مع صعود ورَثة جُدد. .. لماذا؟ ما الذي يقف خلف هذه الديمومة؟
الجمهور المبهور بالوريث المتعثر، أو "المسْتَلْشق"، أو المراهق البسيط .. هو على علاقةٍ تعاقديةٍ مع الوريث
في الاسكتشات الثلاثة المذكورة آنفاً، على أثر كل "زلّةٍ" ارتكبها الوريث المرشّح، أو الذي سوف يترشّح بعدما يبلغ العمر "المناسب" .. كان الجمهور، في كل اللقطات، يصفّق بحرارة وإصرار، للوريث الغلْطان، يشجّعه، يدعو له بالفوز بالمقعد المرْتجى. ولا واحد منهم فكّر بأنه بتصديقه على نوعٍ كهذا من المرشّحين، إنما يديم النار المشتعلة في جهنمه. بعفوية، بحماسةٍ منقطعة النظير، يغطّي هذا الجمهور على زلاّت ابن زعيمه المفدّى، كما سيغطي هذا الابن على ارتكاباته، بعد أن "ينجح". وهنا بيت القصيد. الجمهور المبهور بالوريث المتعثر، أو "المسْتَلْشق"، أو المراهق البسيط .. هو على علاقةٍ تعاقديةٍ مع الوريث. وبديله، الضعيف، القادم من سلالةٍ لم تحفر اسمها في "التاريخ" .. لن يكون بقوة الذي سوف يغطّي على مرشّح يتمتع بهذه الدرجة من "الأصالة".
وهنا لا أتكلم فقط عن فئاتٍ رثّة، أو جاهلة. إنما عن شرائح بعينها، متوسّطة الحال، هي على الأرجح الأكثر حماسة للتوريث السياسي، لأنه هو الميل الرائج، أي الأنجح. ويصبح التوريث بذلك ممارسةً مقبولةً في المستويات الدنيا من الأدوار الأخرى: في السلك الديبلوماسي والخدماتي، في الجامعات، في الوظيفة الرسمية أو الأمنية. في الإعلام، والفن والثقافة والرياضة. بحيث يكون المجتمع مرآةً أمينةً للنظام الذي يحكمه.
أخيراً: التوريث ممارسةٌ شرعية تماماً، تصونه كل القوانين والدساتير. الآباء، الأمهات، يورّثون أبناءهم، بما جنوه من ثروات أو أراض أو بيوت أو مصانع أو حُلي .. إلخ. أي وراثة خاصة، شخصية. ولكن توريث المقعد النيابي، أو أي من المقاعد الرسمية الأخرى، هو استيلاء صريح على أملاكٍ ليست شخصية، إنما عامة، ملك الجميع، فأن يجلس النائب على مقعد برلماني يعني أن أولئك "الجميع" هم مرجعه، لهم فضل عليه. والنيابة ليست من صنعه ولا من صنع جدّه أو أبيه، ولا هي جاريةٌ في دمائه وجِيناته (دي. أن. إيه). بل هي من صناعة المجال العام: أي السياسة، والاجتماع والثقافة، وكل ما يتفرّع عنها من مجالات وتفرعاتها. والتوريث، من هذه الزاوية، عملية سطو معلَن على هذا الخير العام. فوق السطو على أموال الدولة، أو من قبله. الشطارة في سرقتنا تبدأ من هنا. من عملية السطو الأولى التي نتواطأ معها. بشموعها وأناشيدها.