الانتخابات الإيرانية وصراع الشرعية
مع انطلاقة حملات المرشّحين في الانتخابات الرئاسية الإيرانية المقرّرة في 18 يونيو/ حزيران الحالي، وبعد تنامي توقعات بعدم إقبال الناخبين على المشاركة في الاقتراع، أسوةً بالانتخابات البرلمانية مطلع عام 2020، والتي شهدت امتناع 57% من الناخبين عن المشاركة، بدأت تساؤلات تُطرح بقوة بشأن شرعية الإجراءات التي سبقت الحملات الانتخابية، ونتج عنها إسقاط مجلس صيانة الدستور أهلية مرشحين بارزين محسوبين على التيارين الإصلاحي والمعتدل، ومآلات هذه الإجراءات في ضوء تدني نسبة المشاركة الشعبية المتوقعة في الانتخابات، وفي ضوء نتائجها المحسومة سلفاً لصالح إبراهيم رئيسي، حسب مؤشّرات عديدة.
يستتبع الحديث عن شرعية هذه الإجراءات حكماً حديث عن محاولة النظام الإيراني إعادة إنتاج شرعيته الثورية من خلال هذه الانتخابات. وهنا يمكن الحديث عن سببين دفعا المرشد علي خامنئي إلى مباركة استبعاد مجلس صيانة الدستور المرشحين المنافسين لإبراهيم رئيسي، على الرغم من أصواتٍ عديدة معارضة لهذا. أول السببين صفقة سياسية، تحدّث عنها متابعون للشأن الإيراني. طرفاها الأساسيان خامنئي وابنه مجتبى من جهة، وإبراهيم رئيسي المرشّح الرئاسي الأبرز، ووالد زوجته أحمد علم الهدى، ممثل المرشد في محافظة خراسان من جهة أخرى. وبموجب الصفقة، يسهّل المرشد لرئيسي الوصول إلى قصر سعد آباد رئيسا للسلطة التنفيذية، في مقابل ضغط رئيسي الذي يشغل منصب نائب رئيس مجلس خبراء القيادة (ينتخب المرشد الأعلى للثورة) ووالد زوجته أحمد علم الهدى، من أجل تعيين مجتبى خامنئي خلفاً لوالده الذي بلغ 82 عاما، ويعاني من سرطان البروستاتا. السبب الآخر وجود توجّه واضح وقوي لدى مؤسسة النظام القائمة على تحالفات بين المرشد الأعلى وشخصيات عديدة محافظة متشدّدة والمؤسسة العسكرية والأمنية، نحو هيمنة التيار المحافظ على جميع منابر السلطة، بهدف توحيد التوجّه السياسي للسلطات، وإشاعة حالة انسجام، بعد ترسيخ التيار المحافظ المتشدد مرجعية موحدة لإدارة البلاد، ومواجهة تحدّيات المرحلة المقبلة، حفاظاً على ما تسمّى مفاهيم "الثورة" وديمومة النظام السياسي.
إجراءات مجلس صيانة الدستور ومباركة خامنئي لها عكست عدم اكتراث النظام الإيراني بحجم المشاركة الشعبية في الانتخابات
وتكشف الإجراءات السابقة عن رؤية مؤسّسة النظام لمستقبل السلطة التنفيذية وطبيعتها، وسعيها إلى إفراز زعاماتٍ ذات توجّهات متشدّدة في المرحلة الحالية، والمرحلة التي ستشهد اختيار مرشد جديد. لهذا لم يتم استبعاد ممثلي الصف الأول من التيار الإصلاحي فحسب، وإنما تم استبعاد ممثلي ثلاثة تيارات أخرى: المعتدل القريب من الحكومة الحالية، والأصولي المعتدل الذي يقوده علي لاريجاني، والأصولي – الشعبوي الذي يمثله الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد. فمؤسّسة النظام ليست في وارد السماح لأي طرف داخلي، من التيار المحافظ أو من غيره، أن يعرقل هذا المسار الذي رسمته وتعمل على تنفيذه، والذي يهدف إلى ضمان مستقبل استمرارها في السلطة، وإلى وضع حدّ للثنائية السياسية في السلطة أو القرار التنفيذي، وما قد يحصل من اختلافٍ في المواقف والرأي بين المرشد والحرس من جهة ورئيس الجمهورية من جهة أخرى.
وفيما تعدّ نسبة المشاركة في الانتخابات المقبلة نقطة ترقّب كبيرة، إلا أن إجراءات مجلس صيانة الدستور ومباركة خامنئي لها عكست عدم اكتراث النظام الإيراني بحجم المشاركة الشعبية في الانتخابات. ومع ذلك، اضطر عديدون من رجالات النظام المحسوبين على الحرس الثوري والمحافظين، ووسائل إعلام تابعة لهم، إلى تناول موضوع المقاطعة، بعد تتالي المواقف المتشائمة على لسان النخب السياسية والدينية والثقافية الإيرانية المستاءة، ورفضها قرارات الإقصاء المدروسة من دون الاكتراث بمواقف الناخبين واحتمال المقاطعة الواسعة، إلى درجة صدرت فيها فتاوى من مشايخ مقرّبين من المرشد، أمثال أحمد علم الهدى، اعتبرت مقاطعة الانتخابات بمثابة ترك الإسلام. هذا عدا عن تهديدات رئيس قوى الأمن الإيرانية، الجنرال حسين اشتري، باعتقال كل من يدعو الإيرانيين إلى مقاطعة الانتخابات.
من المتوقع أن تؤسّس الفتاوى والتهديدات لمرحلة جديدة سيكون عنوانها العريض التصفية داخل النظام السياسي ككل، وداخل التيار المحافظ بشكلٍ خاص
ويعكس صدور هذه الفتاوى وهذه التهديدات خشية النظام، الذي يمر بحالة حرجة من فقدان التوازن السياسي، من فقدان شرعيته التي بدأت تتآكل على خلفية الدعوات المتنامية إلى مقاطعة الانتخابات، والتي تأتي بعد ثلاث انتفاضات على مستوى البلاد في 2018 و2019 و2020 رفعت شعاراتٍ استهدفت المرشد خامنئي وعديدين في النظام الإيراني. لهذا من المتوقع أن تؤسّس هذه الفتاوى والتهديدات لمرحلة جديدة سيكون عنوانها العريض التصفية داخل النظام السياسي ككل، وداخل التيار المحافظ بشكلٍ خاص، في محاولة لإعادة إنتاج شرعيته الثورية، وخصوصاً بعد تصريحات عديدة صدرت عن محسوبين على التيار المحافظ، انتقدت إجراءات مجلس صيانة الدستور.
في المحصلة، يمكن القول إنّ السياقات المحيطة بالانتخابات الإيرانية وإجراءاتها تكشف قدراً متزايداً من الصراع ما بين الشرعيتين الثورية والشعبية، في ظل التحولات الآخذة في التشكّل داخل النظام السياسي، فسيطرة المحافظين المتشدّدين على السلطات الثلاث، وتنامي دور الحرس الثوري الإيراني وطموحاتهم بممارسة مزيد من السلطة، مقابل تنامي الغضب الشعبي في الشارع الإيراني، وتعالي الأصوات المنتقدة لخامنئي ومؤسّسته، كلها تدلّ على دخول مؤسسة النظام السياسي مرحلة جديدة أكثر استقطاباً بين أقليّة مرتبطة بدوائر الحكم، اغتنت منذ الثورة، تسعى إلى إعادة إنتاج شرعيتها الثورية، وأغلبيّة أنهكها فساد الإدارة الاقتصادية وسوئها والعزلة الدولية والتضييق على الحريات الأساسية، تسعى إلى سحب شرعيتها الشعبية.