الاستيطان في القدس .. رسالة إلى بايدن
لطالما كان الاستيطان أولويَّةً لدى حكومات الاحتلال الإسرائيلي، على اختلاف الأحزاب الحاكمة، من يمين أو يسار. وهو يشكّل أكبرَ تهديدٍ لمشروع الدولة الفلسطينية، وفي الوقت نفسه، ورقة مزايدة، أو وسيلة استقواء، في وجه أزمات داخلية يواجهها رئيسُ الحكومة، كما يحدُث، هذه الآونة، مع بنيامين نتنياهو، والذي يواجه تُهَمًا بالفساد والاحتيال وخيانة الأمانة، كما يواجه تبعاتِ فشله في التعاطي مع وباء كوفيد 19 وتداعياته الاقتصادية، إذ حاول تسويق نفسه بالاختراقات الخارجية اللافتة؛ بنجاحه في تطبيع علاقات دولة الاحتلال مع الإمارات والبحرين والسودان، بقوله، مثلًا، إنّ اتفاقات التطبيع "تغيّر خريطة الشرق الأوسط"، وتضع حدًّا للعزلة الجغرافية التي كانت تعانيها إسرائيل، وتقصّر مدَّة الرحلات الجوية وتخفّض كلفتها".
يدرك نتنياهو أنّ الموقف من الاستيطان لن يكون كما كان في عهد ترامب الذي كفَّ عن اعتبار الاستيطان مخالفًا للقانون الدولي
واستطاع أن يقول إنه نجح في ذلك، على الرغم من تجاهله التام متطلَّبات التسوية مع الفلسطينيين، وعمله الدؤوب، لتقويض حلِّ الدولتين؛ بسياسات الضمِّ وفرْض السيادة على الضفة الغربية المحتلَّة.
والآن، وبعد خسارة نتنياهو الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الأكثر استهتارًا بالقانون الدولي، والأوضح خروجًا عن القرارات الأُممية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية والاستيطان، فإنه يدرك أنّ الموقف من الاستيطان لن يكون كما كان في عهد ترامب الذي كفَّ عن اعتبار الاستيطان مخالفًا للقانون الدولي، والشرعة الدولية. وهو يبدو مُصِرًّا، حتى رمقه الأخير رئيسًا، على تأكيد هذا الخروج، كما في زيارة وزير خارجيته، مايك بومبيو، غير المسبوقة والاستفزازية، مستوطنة بساغوت في الضفة الغربية، (ثم إلى هضبة الجولان المحتلَّة)؛ معلنًا أنّ "الولايات المتحدة تصنِّف الصادرات من المستوطنات على أنها صناعة إسرائيلية"، خلافًا لكلِّ الإدارات الأميركية السالفة. ولذلك، يبدو نتنياهو معنيًّا بتجاهُل التحوُّل الذي يُحدثه وصول جوزيف بايدن الرئيس الذي يرجَّح أن يكون نهجُه استمرارًا لنهج الرئيس الديمقراطي الأسبق، باراك أوباما، الذي كان وجَّه لنتنياهو ما يشبه الصفعة الانتقامية، حين أدَّى امتناع المندوب الأميركي في الأمم المتحدة عن استخدام حقِّ النقض (الفيتو) إلى تبنّي مجلس الأمن القرار 2334، في 23 ديسمبر/ كانون الأول 2016، والذي حثّ على وضع نهاية للمستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، ونصَّ على مطالبة إسرائيل بوقف الاستيطان في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، وعدم شرعية إنشاء إسرائيل المستوطنات في الأرض المحتلة منذ عام 1967. وكان أول قرار يُمرَّر في مجلس الأمن متعلق بإسرائيل وفلسطين، منذ 2008.
بعد فوز بايدن بالرئاسة، أعلنت بلدية القدس عن إقامة مائة وحدة سكنية جديدة في مستوطنة مقامة على سفوح تلال شعفاط
بايدن الذي كان يشغل، ثمانية أعوام، منصب نائب الرئيس، وكانت له مع دولة الاحتلال محطّات تعارُض، وصلت أحيانًا إلى حدِّ التسبُّب في أزمة بين إسرائيل والولايات المتحدة، عندما أعلنت وزارة داخلية الاحتلال، في 2010، ترويج بناء 1600 وحدة سكنية في "حي رمات شلومو" في القدس المحتلّة، وكان ذلك في أثناء زيارة بايدن إسرائيل. وقتها اضطرت حكومة الاحتلال إلى وقف ذلك الترويج. وبحسب القناة العبرية السابعة، فإنَّ هذا المخطَّط كان تمَّ إيقافه، في الماضي؛ بسبب أزمة بين الحكومة الإسرائيلية وإدارة الرئيس الأميركي أوباما.
واليوم، وبعد فوز بايدن بالرئاسة، أعلنت بلدية القدس عن إقامة مائة وحدة سكنية جديدة في مستوطنة رمات شلومو المقامة على سفوح تلال شعفاط شمال القدس المحتلة، تزامنًا مع الإعلان عن البدء بتسويق ما يزيد على 1200 وحدة استيطانية جديدة فيما تعرف بمستوطنة جفعات هاماتوس جنوب القدس المحتلة. ومن شأن هذا المشروع أن يؤدِّي إلى عزل أحياء في المدينة عن بيت لحم في الضفة الغربية؛ ما يعني قطع التواصل بين القدس المحتلة وجنوبي الضفة الغربية، وإفشال حلِّ الدولتين.
وهكذا، يستمرّ تكثيف الاستيطان في القدس التي تتميّز، بحسب كتاب "الاستيطان الصهيوني في الضفة الغربية 2015-2016" (الصادر عام 2017) باستهداف الاحتلال لها بالسيطرة، والالتهام الكامل، وذلك على اعتبار أنها تمثل "عاصمة" كيانه الاستيطاني. مشيرًا إلى أنه بعدما كان المقدسيون يملكون غالبية الأراضي عام 1967، أصبحوا بعد عمليات المصادرة، وبعد إقامة المشاريع الاستيطانية، وفتح الطرق، والبناء ضمن الأحياء العربية، لا يملكون إلا 14% من الأراضي في القدس الشرقية.
تعمل حكومة نتنياهو على فرض الوقائع على الأرض، مستغلّة، ما أمكنها، فترة السماح والتشجيع التي يمنحها ترامب
والمؤشِّرات على رفع وتيرة الاستيطان، قبل تنصيب الرئيس الأميركي الجديد، بايدن، واضحة. وكأنَّ حكومة نتنياهو تتعمَّد إرسال رسالة مبكِّرة إليه، تختبره بها، وتستبِق أيّ ضغوط، أو حتى أيّ مواقف. ومع أن مصادر حكومية إسرائيلية تنفي أن يكون قرار البناء في "حي رمات شلومو" سياسيًّا، إلا أن السؤال عن التوقيت يصعب تهميشه؛ فلماذا بقي القرار مجمَّدًا منذ عام 2010؟ ولماذا لم يعلَن عن إقراره في عهد ترامب؟ لو لم يكن رسالة سياسية استباقية لبايدن المرجَّح، بحسب مواقفه المعلنة مسبقًا، أن يحتذي حذْوَ أوباما في رفض التوسُّع الاستيطاني، وفي مواقف أقلَّ عداء للفلسطينيين، وأكثر تمسُّكًا بحلِّ الدولتين، مع أنه لا يرجَّح عزمُه على ممارسة ضغوط فعلية على دولة الاحتلال؛ لإلزامها بوقف الاستيطان، أو تجميده.
وبذلك، تعمل حكومة نتنياهو على فرض الوقائع على الأرض، مستغلّة، ما أمكنها، فترة السماح والتشجيع التي يمنحها ترامب، ولعلها تطمح، بهذا القرار، إلى كسر أيِّ توقعاتٍ بأيِّ تغييرٍ في مسارها الحثيث والمتسارع في اتجاه الاستيطان والتهويد، وفرْض الحقائق على الأرض، في مسعىً إلى تكريس الاستهانة بالموقف القانوني الدولي وموقف الإدارة الأميركية الجديدة، والاستمرار في النيْل من مبدأ "لا شرعيَّة الاستيطان"، مستفيدةً من الفترة القليلة المتبقيَّة لترامب. لكن، يبقى التأثير مغايرًا، بين رئيس أميركي آفِلٍ يدعم دولة الاحتلال في الاستيطان، وغيره، ولا يستبعِد معه محللون إسرائيليون، كما كتب ناحوم برنياع، في صحيفة يديعوت أحرنوت، أن يعلن، "وفق أكثر السيناريوهات تطرّفاً"؛ خلال الأسابيع المقبلة، عن ضمٍّ جزئيٍّ للضفة الغربية، وبين رئيسٍ مقبل، حريصٍ على إعادة النظر في مجمل التوجُّهات والسياسات التي انتهجها سلفه، والذي كان حريصًا بدوره على معاكسة قرارات ترامب، إلا في استراتيجيات أميركية ثابتة، وعميقة.
ولا يتوقَّع أن تقدِّم حكومةُ نتنياهو، (أو أيُّ حكومة مقبلة يرجَّح أن يكون اليمين مسيطرًا عليها)، مصالح دولة الاحتلال في التطبيع مع دول عربية إضافية، قد تشترط وقف الاستيطان، فصوته وأصوات المستوطنين أقوى، واعتبارات الاستيطان أوْلى، وأكثر إلحاحًا.