الاستخبارات الأميركية والفيروس الصيني وتعميم الجهل
سمّاه الرئيس الأميركي (السابق)، دونالد ترامب، الفيروس الصيني، وشُنّت حملة عالمية كبيرة من الكراهية على كل ما يخصّ الصين، تاريخاً وثقافةً وطعاماً وسياسةً واقتصاداً وسواه كثير، وأنّها لو لم تنفتح على أميركا في السبعينيات، لكان مصيرها كما الاتحاد السوفييتي، أي الانهيار. نكتُب، لأنَّ تقريراً للاستخبارات الأميركية، نُشِرَ، وبعد طلبٍ من برلمانيين أميركان عمّا يعرفونه بدقّةٍ عن منشأ فيروس كورونا، وكان الردُّ أن لا علاقة لمختبرات ووهان بتسريبه، والأطباء الثلاثة الذين تُوفّوا حينها، وكانوا يعملون فيها لم يُصابوا به، وأن هذا الفيروس، على الأغلب، انتقل من حيوانٍ بريٍّ إلى البشر. طبعاً، تشارك الاستخبارات في كراهية الصين، وهو جزء أساسي من عمل أيّة استخبارات بكل الأحوال، ولو لم تُستجوب لظللنا في جهلٍ مقيم.
يمكن انتقاد الصين في مجال حقوق الإنسان وغياب الديمقراطية وغياب الحريات العامة والشخصية والادّعاء أنّ نظامها شموليٌّ، بل ورفض كل نظامها الاقتصادي والسياسي "الاشتراكي". ولكن لا يمكن عدم الإعجاب بتطوّرها الاقتصادي والتقني، وبنسب نموها العالية وبمشاريعها الضخمة لبسط نفوذها الاقتصادي خصوصاً، العالمي، وكذلك لا يمكن تجاهل التداخل الاقتصادي الكبير بينها وبين الاقتصادين، الأميركي والأوروبي أولاً، ومن ثم مع العالم.
تشبه خطابات الكراهية هذه ما كان يكرّره الشيوعيون ضد الأميركان خصوصاً، وضد النظام الرأسمالي ليل نهارٍ وفي كل الفصول عقوداً، وهذا يختلف عن الدراسات الماركسية عن أزماته الاقتصادية الدائمة أو الطارئة أو مشكلات الليبرالية أو الديمقراطية وسواه. إذاً، هناك عامل أيديولوجي "رخيص"، ولنقل لا يمتلك أيّة معرفة أوّليّة عن الآخر، الصين، أميركا وسواهما. المعلومات الشحيحة عن الصين، وغياب الحريات بعامة والصحافة الحرّة في هذا البلد، يشجّع بدوره ما ذكرناه، حيث تغيب الحقائق عن الكارهين والموضوعيين معاً، وبقدر أقل عن أميركا، ولكن جرعة الأدلجة ضدها وضد النظام الرأسمالي، يجعل العقل يُعمّم تلك الكراهية البائسة.
أميركا أو الأنظمة الرأسمالية الغربية يمكن انتقادها، بشأن سياساتها المتعلقة بشروط الإقراض من البنوك الدولية، وفي الغزو الأميركي للعراق وأفغانستان في بداية الألفية الثالثة، وفي سيطرة شركات كبرى على وسائل إعلام كثيرة. يمكن أيضاً انتقادها بسبب غياب دور عالميّ لها، ولا سيما أنّها تهيمن وتسيطر على العالم، للتدخّل فيه بسبب القمع أو الانقلابات العسكرية أو الحروب الأهلية، بل والأسوأ تدخّلها، داعمةً ديكتاتوريات كثيرة في العالم؛ لاحظ الصمت عن انقلاب عبد الفتاح السيسي في مصر في 2013 مثلاً، ولاحظ كيف أُغلِق ملفّا الصحافيَّين جمال خاشقجي وشيرين أبو عاقلة، وحينما نحدّد أمثلة كهذه، فلأنَّ الإعلام حينها غطّى الأمر بكثافةٍ شديدة، وصمت بأشدٍّ منها لاحقاً.
للجهل وللكراهية أسبابٌ كثيرة، ومنها غياب نشر المعلومات الدقيقة عن السياسات الداخلية أو العالمية للصين مثلاً أو حتى لأميركا وسواها
للجهل وللكراهية أسبابٌ كثيرة، ومنها غياب نشر المعلومات الدقيقة عن السياسات الداخلية أو العالمية للصين مثلاً أو حتى لأميركا وسواها. وعكس ذلك، هناك إغراق العالم بالتفاهات، والمعلومات السطحية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، كثيفة الحضور، ولحظية التبدّل، "تغطيات فيروس كورنا إعلامياً"، ما يعوق تفحّص المعلومات وفرزها، وإعادتها إلى أسبابٍ منطقية أو موضوعية، ونشر المعرفة الدقيقة حولها، أو نفي صحتها. صحيحٌ أن حركة العالم تتسارع بشكلٍ مخيفٍ، والتقدّم التكنولوجي، ولا سيما قبل الذكاء الاصطناعي وبعده، يقلّص من التفكير العقلاني والموضوعي، وأن الاصطناعي أصبح يدفع العقل إلى الاستقالة، حيث يقوم هو بكل العمليات الحسابية خصوصاً، وهناك رفض كبير في الأوساط العلمية والفكرية والابداعية له، فهو سيلغي ملايين الوظائف، وبالتالي سيكون ملايين البشر عاطلين من العمل.
قَتَل هذا الفيروس الملايين في العالم، ومن كل الجنسيات، واغتنت كبرى شركات الأدوية من جرّاء العقارات التي أنتجتها، وقيل إن الدول الأغنى كانت الأكثر تلقيحاً لشعوبها، بينما ماتت أعداد أكبر في الدول المتخلّفة. وفي الدول الغنية، جرى كلام كثير عن ترك الفيروس ينتشر لتشكيل المناعة، ولكن أيضاً ليحصُد أصحاب الأمراض المستعصية وكبار السن، حيث يكلفون ميزانيات الدول مالاً كثيراً. كان لكوفيد 19 تأثير خطير في الإنتاج، وتوقفت كثير من خطوطه العالمية ومن التجارة الدوليّة، ولا سيما بين الصين والغرب، وكانت الصين من أكثر المتضرّرين منه، لأنّها اعتمدت سياسة تجفيف الفيروس وإغلاق المدن ريّثما يُقضى عليه، بينما اعتمد الغرب سياسة انتشاره وتشكيل المناعة الذاتية ضدّه، وكانت اللقاحات أكثر فاعلية.
المعلومات عن حقيقة الفيروس موجودة لدى الاستخبارات الأميركية أو الغربية منذ الأشهر الأولى له، ولكن أُخفيَت، وسُمِح للمعلومات الخاطئة وللكراهية بالتعميم. وبالتأكيد، كان الرئيس الأميركي ترامب يعلم ذلك، وسمّاه الفيروس الصيني. قبالة ذلك، عمل هذا الرئيس على تعميم سياساتٍ مناهضة للصين، وتَشدّد بايدن لاحقاً فيها، وهو ينسجم مع سياسات الإدارة الأميركية منذ أوباما تجاه الصين، باعتبارها الخطر الأكبر على الولايات المتحدة، ولا بد من مواجهتها، وهذا يعني أن الكذب كان وما زال الأساس في تعميم سياساتٍ معينة، وحجب أخرى.
المعلومات عن حقيقة الفيروس موجودة لدى الاستخبارات الأميركية أو الغربية منذ الأشهر الأولى له، ولكنها أُخفيَت، وسُمِح للمعلومات الخاطئة وللكراهية بالتعميم
يمكن للعالم أن يواجه أوبئة جديدة، وأشدَّ فتكاً، والآن، ومنذ عقود يتغيّر المناخ كثيراً، وبما يرفع من حرارة الأرض، ويؤدّي إلى مشكلاتِ بيئيّة كبرى في كل كوكبنا، ويعمّ القحط وتكثر الفيضانات غير المتوقعة، وتُقتل مئات الأنواع من الحيوانات والنباتات، وتنعقد من أجل ذلك مؤتمراتٌ كثيرة، جديدها أخيراً منذ عدّة أيامٍ في فرنسا، وتحت مسمّى "ميثاق مالي عالمي جديد"، ودائماً تخفق بسبب قلة الموارد المالية، أو عدم وضع استراتيجية دولية لمواجهة التغيّر المناخي الكارثية، والتزام تنفيذ بنودها.
يواجه العالم أزماتٍ كبرى، وليست مقتصرة على أوكرانيا والانقسام العالمي حولها، والاقتصاديات الغربية التي تعاني من ركودٍ خطيرٍ، ويبدو أن انهيارات البنوك لم تنتهِ بعد، وهناك الخطورة من تباطؤ نمو الاقتصاد الصيني، الذي يُعَدّ مصنع العالم. ليست هناك تغطياتٍ إعلاميّة جادّةٍ عن التغيّر المناخي، وعن أسبابه وآثاره، التي تعود إلى الثورة الصناعية الأولى، والمسؤوليات حوله، ونتائج عدم مواجهته فعلياً على أفريقيا وآسيا، التي تتضمّن موت ملايين البشر.
يمكننا الاستنتاج أن الاستخبارات الأميركية تعمّدت تعميم الأكاذيب بشأن أصل فيروس كورونا، وساهمت بنشر الكراهية ضد الصين، وقد ربحت شركات الأدوية، ولا بد أن يَربط المرء بين هاتين الجهتين، وذلك فيما يعاني النظام العالمي، برأسيه، الليبرالي والاستبدادي، من أزمات اقتصادية كبرى، ويشكل أحلافاً عسكرية، ويفجّر حروباً أهلية هنا وهناك، وهو يكذب بأنّه مهتم بالتغيّر المناخي، حتى إن الرئيس الفرنسي، ماكرون، وإلى جواره رئيس الوزراء الصيني وآخرون، قال: لا يجوز التفاضل بين دعم التنمية والفقراء أو محاربة التغيّر المناخي، بل يجب معالجة الأمرين معاً! إذاً، كم تُخفي الاستخبارات العالمية من أسرارٍ بشأن ما ذكرناه، وكذا ملفّات القمع والمعتقلين ومصيرهم، ولا سيما في سورية مثلاً، وكم تتلاعب، وضمنها الصينية، في نشر الجهل والكذب. كل هذا يحدث لإخفاء الأزمات الحقيقية؛ الاقتصادية والسياسية، وهي الأساسية في السنوات الأخيرة في الصين أو الغرب أو روسيا، والنتيجة تأزيم العالم واندلاع الحروب وتخريب كوكبنا.