الاتفاق بين لبنان وإسرائيل: انتصار المصالح
منذ إعلان لبنان وإسرائيل التوصل إلى اتفاق لترسيم الحدود البحرية بينهما، وإنهاء النزاع الدائر منذ سنوات على تقاسم ثروات الغاز في مياههما الاقتصادية، حاول كل طرفٍ أن يصوّر الاتفاق انتصارا له. فسارع المسؤولون اللبنانيون المولجون بمعالجة الملف إلى وصف ما حدث بأنه "اتفاق تاريخي"، وانتصارٌ للبنان الذي حصل على كل المطالب التي كان يريدها. ورأى حزب الله، على لسان أمينه العام حسن نصر الله، في الاتفاق "إنجازاً كبيراً" لم يكن ليتحقق لولا المسيّرات التي أطلقها حزب الله في اتجاه منصّة الغاز الإسرائيلية كاريش في يوليو/ تموز الماضي.
على المقلب الإسرائيلي، أجمع رئيس حكومة تصريف الأعمال ووزير الدفاع ورئيس مجلس الأمن القومي والمسؤولون الأمنيون، بدءا من رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، وصولاً إلى رئيس الموساد، على أن الاتفاق يخدم مصالح إسرائيل الأمنية والاستراتيجية، ويحقق الهدوء على الحدود مع لبنان، ويبعد شبح الحرب، ويرسّخ الاستقرار في الحوض الشرقي للبحر المتوسط. بينما شنّت المعارضة الإسرائيلية هجوماً عنيفاً على الاتفاق الذي وصفه نتنياهو بأنه "خضوع لإملاءات حزب الله"، وأنه سيقوي سيطرة الحزب داخل لبنان، وأن المليارات التي تنازلت عنها إسرائيل للبنان في حقل قانا سيستخدمها حزب الله من أجل شراء صواريخ يوجهها ضد المواطنين الإسرائيليين.
أمام هذا المشهد، وإصرار كل طرف من طرفي الاتفاق على التأكيد أنه هو الذي خرج منتصراً منه، يمكن القول إن المنتصر في الأساس المصالح الاقتصادية أولاً وآخراً. ينطبق هذا على لبنان بالدرجة الأولى الذي يعاني أسوأ أزمة مالية واقتصادية منذ سنوات، وباتت أغلبية الشعب اللبناني تعيش تحت خط الفقر في ظل التدهور المستمر في قيمة العملة الوطنية، والارتفاع الجنوني في سعر الدولار في السوق السوداء، وما ينجم عنه من صعود هستيري في أسعار السلع على اختلاف أنواعها، ما يفاقم الأزمة الحياتية، وينذر بانفجار ثورة "جياع" في لبنان، سيكون أكبر المتضرّرين منها حزب الله الذي هو، بشكل أو بآخر، المسيطر الأساسي على الحياة السياسية الداخلية في لبنان.
لبنان أمام تجربة اتفاق من نوع جديد، والعبرة في التطبيق، وهذا ما ستؤكّده الأيام المقبلة
ولكن أزمة لبنان الاقتصادية ليست هي التي سرّعت الاتفاق الذي لم يكن ليحدُث لولا تقاطع المصلحة اللبنانية الاقتصادية في الاستفادة من الغاز مع الإرادة الأميركية في التوصل إلى تسويةٍ للنزاع مع إسرائيل، وتأمين الاستقرار في الحوض الشرقي للبحر المتوسط شرطا مهما لتأمين تزويد أوروبا بالغاز من إسرائيل ومصر، في ظل أزمة الطاقة التي تحوم فوق أوروبا نتيجة العقوبات المفروضة على روسيا، بسبب غزوها أوكرانيا، ووقف التزوّد بالغاز الروسي.
تُضاف إلى هذا كله المصلحة الإسرائيلية في حماية مصالحها الاقتصادية من خلال تأمين استخراج هادئ للغاز من منصة "كاريش"، ونزع فتيل التصعيد بينها وبين حزب الله، الذي هدّد بعدم السماح لإسرائيل باستخراج الغاز إذا لم يحصل لبنان على حقوقه في استغلال ثروته من الغاز. رافقت ذلك رغبة رئيس حكومة تصريف الأعمال يئير لبيد، خلال فترة ولايته القصيرة، تحقيق إنجاز يمكن أن يخدم حملته الانتخابية، ويقنع الناخبين بالتصويت له بعد أقل من شهر من خلال تصوير الاتفاق بأنه يحفظ مصالح إسرائيل الأمنية من جهة، ويؤمن استقرارا يخدم نمو الاقتصاد الإسرائيلي في وقتٍ يمرّ الاقتصاد العالمي بفترة انكماش وركود.
يدفعنا هذا كله إلى استنتاج أن اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل هو حصيلة ظروف اقتصادية داخلية لبنانية صعبة، وإرداة دولية حازمة ومصلحة اقتصادية إسرائيلية بالدرجة الأولى. وفي الواقع، كل الكلام الإسرائيلي الذي يعتبر الاتفاق "منعطفاً" ومرحلة جديدة في العلاقات بين إسرائيل ولبنان، أو بداية تراجعٍ في مكانة حزب الله داخل لبنان، وفي نفوذ إيران أيضاً، أو الكلام عن الاتفاق بوصفه "إنجازا أمنيا" غير مسبوق لإسرائيل، فرض على لبنان الاعتراف، ولو بصورة غير رسمية، بحدود بحرية وضعتها إسرائيل من طرف واحد بعد انسحابها من لبنان في عام 2000، والمعروف بخط "الطفافات"، ناهيك بالكلام عن نزع ذريعة الحرب من يد حزب الله وتحقيق هدوء نسبي وإبعاد شبح الحرب، هو من قبيل المبالغات الإسرائيلية التي تنحو عموماً نحو تضخيم الإنجازات، وتميل إلى تجاهل الواقع اللبناني المعقد على الأرض.
اتفاق قد يشكّل، إذا نجح، نموذجاً لاستخدام دبلوماسية المال في حل النزاعات المسلحة
وقّعت إسرائيل في 17 مايو/ أيار من عام 1983 اتفاق سلام مع لبنان، اعتبرته بداية مرحلة سلام بين البلدين. يومها كان لبنان مدمّراً ومنكوباً وجريحاً جرّاء الغزو الإسرائيلي للبنان. واعتقد الإسرائيليون أنهم حقّقوا هدفهم من الحرب، وغيروا وجه لبنان السياسي. وبعد أقل من عام، جرى الإعلان في مارس/ آذار 1984 عن إلغاء الاتفاقية. ليس هناك مجال للمقارنة بين ما حدث آنذاك والاتفاق على ترسيم الحدود الآن الذي في الأساس هو اتفاق اقتصادي أمني محدود. لكن من يقرأ التحليلات الإسرائيلية لتداعيات الاتفاق، قريبة وبعيدة المدى، التي تُغدق الثناء على الاتفاق وترفع من قيمته وأهميته، أو الانتقادات العنيفة له من المعارضين له، يُلاحظ مرة أخرى الميل الإسرائيلي نحو تضخيم إيجابيات الاتفاق وسلبياته، والنظر إليه من منظور سياسي إسرائيلي داخلي ضيق.
كل ما يمكن قوله هو أننا أمام اتفاق اقتصادي مهم، قد يشكّل، إذا نجح، نموذجاً لاستخدام دبلوماسية المال في حل النزاعات المسلحة، أي المال مقابل الهدوء والاستقرار الأمني. وحتى يتأكّد ذلك، لبنان أمام تجربة اتفاق من نوع جديد، والعبرة في التطبيق، وهذا ما ستؤكّده الأيام المقبلة.