الاتفاق السعودي الإيراني والمسألة السورية
استعادة العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وسورية هي اليوم محور النقاش في القضية السورية التي استعصت على الحل بين المعلقين السوريين والعرب. يخشى كثيرون من المحلّلين القريبين من المعارضة أن تكون هذه الخطوة بداية الطريق لإنهاء العزلة التي فرضت على نظام الأسد منذ بداية الأحداث السورية عام 2011، وتسليماً بالأمر الواقع ودفن مسألة التغيير والإصلاح أو الانتقال السياسي الذي وعدت به القرارات الدولية، وفي مقدمها قرار مجلس الأمن 2254. ويأمل آخرون ألّا تخدع الرياض بالمناورة الإيرانية وسياسة الخداع والتقية التي برعت فيها وتقبل التطبيع مع نظام لم يعد هناك من يجهل حقيقته والوسائل الوحشية التي استخدمها للحفاظ على بقائه وتبعيته لطهران وخدمته في مشروع توسّعها الاستراتيجي العسكري والثقافي والمذهبي معا.
أولاً، أبعد من التطبيع والتعويم: ... بالتأكيد، لا تقوم حكومة باي خطوة سياسية ما لم ترتبط بمصالح تخصّها. والرياض تنطلق في خطوتها هذه، مثل جميع الدول، من حساباتها الوطنية التي لا يصعُب التعرّف إليها ولا تفهم شرعيتها أيضاً، فهي في صراع مع الزمن لتعيد بناء قوتها الاستراتيجية في عالم متغيّر وإقليم متفجر مليء بالمخاطر والانهيارات، ومن ثم بالمفاجآت. ومن بين هذه المصالح الاستراتيجية، وأهمها السعي للخروج من مناخ المواجهة الذي سيطر على المنطقة بأكملها منذ تبوّؤ أنصار ولاية الفقيه السلطة في طهران، وتبني حكوماتهم سياسة تصدير الثورة الإسلامية، التي تحوّلت إلى فتنة مذهبية في أكثر من بلد، وفي ما وراء ذلك البحث عن استقرار إقليمي، هي في أشد الحاجة إليه لإنجاح ما يمكن تسميتها الثورة التحديثية التي أطلقها وليّ العهد محمد بن سلمان. وهي تشكّل مشروعاً يتناقض مباشرة مع مشروع التوسّع الجغرافي والمذهبي والاستراتيجي الإيراني ويصطدم به. وفي مركز هذا الاصطدام، تقع سورية التي فقد شعبُها سيطرته على مقدّراته وأصبحت بلاده رهاناً مفتوحاً تتنازع عليه قوى خارجية وداخلية متعدّدة لم تعد منظومة حكم الأسد الأمنية والعسكرية إلا واحدة منها، بالرغم من أن الحفاظ عليها لا يزال ضرورياً للإبقاء على تحييد الشعب السوري أو السوريين كشعب، واستمرار الصراع على تقاسم المواقع والنفوذ والمصالح على حسابه من جميع الأطراف المتنازعة وقوى الاحتلال.
ولم يعد يخفى على أحد أن هذا الصراع المستمر منذ أكثر من نصف قرن، واتخذ شكلاً دراماتيكياً بعد اندلاع الثورات الشعبية، أدّى إلى دمار أقطار عديدة وتهجير ملايين السكان وتشريدهم من أكثر من قُطر عربي. كذلك أدخل جميع الأطراف في نفق طويل، ووضع جميع مشاريعها في طريق مسدود، فلم يعد الخراب من نصيب طرف دون آخر، ولكنه عمّ الجميع، وتحول إلى عبء ثقيل على دول المنطقة، قضى على أي أمل في التقدّم، بما في ذلك داخل الدول الإقليمية الكبرى المشاركة فيه.
ومن الطبيعي أن يدفع هذا الوضع المستعصي على التغيير والمهدّد بزعزعة أكبر لاستقرار المنطقة وحياة شعوبها، من دون أي أمل بالانتصار لأي طرف، بعض عواصم المنطقة المعنية مباشرة بالصراع، إلى البحث عن مخرجٍ للمأزق، ولو كان ذلك من خلال مسارات جانبية أو جزئية. وفي هذا الإطار، انتعشت مساعي دولٍ عربية عديدة لفتح الأبواب المغلقة مع نظام الأسد الذي لا يزال يرفض أي تسوية سياسية أو إصلاح. وربما يعتقد بعضها أن الانفتاح على الأسد وتقديم بعض المكاسب الاقتصادية والسياسية لنظامه يمكن أن يساعد على حلحلة الأزمة السورية التي يشكل اليوم حلها المفتاح لأي تهدئة إقليمية، مثلما كان الصراع على سورية في صلب الصراع الإقليمي لحسم معركة الهيمنة الأقليمية، ولا يزال استمرارُه يشكّل أحد أكبر براكينها الملتهبة.
ومما لا شك فيه، أن هذا التوجّه العربي الذي يمثل الاتفاق السعودي الايراني ذروته إزاء نظام لا تغيب عن أيٍّ من الحكومات العربية طبيعته السياسية ونشاطاته المخرّبة للاستقرار، ورعايته تجارة المخدّرات المدمّرة لمجتمعات المنطقة لا ينفصل عن تخاذل الغرب وتخلّيه عن التزاماته الدولية السابقة في الدفاع عن استقرار المنطقة ودولها وخضوع حكوماته للابتزاز الإيراني على حساب دول الخليج. كذلك ساهم فيه أيضاً مناخ الأزمة التركية الداخلية المرتبطة بالانتخابات الرئاسية، وأخيراً التحسّن المطّرد في العلاقات العربية والروسية الصينية في إطار الصراع الجديد المتفاقم على إعادة توزيع مواقع الهيمنة العالمية.
لن تعني إعادة العلاقات العربية مع الأسد سوى مساعدته على إسقاط القرارات الدولية وتبرئته من التهم الموجّهة إليه
هل يقود ذلك إلى التطبيع الفعلي بين الدول العربية الرئيسية ونظام الأسد، ويحسم لصالحه القضية السورية، وأعني بها، ببساطة، الخروج من نظام الحرب الأهلية، والانتقال نحو نظام سياسي جديد يضمن حياة السوريين وأمنهم وحقوقهم الأساسية؟
بداية، لا أعتقد أن الانفتاح الإيراني الموعود سيلغي أسباب الصراع الذي سيستمر طويلاً بين قوى المنطقة الأكبر، وفي مقدمها إيران على الهيمنة الإقليمية، فهو تغيير في السياسة أملته الظروف القاسية والإخفاقات والوصول إلى طريق مسدودة. وليس هناك ما يمنع من التخلّي عنه في أي لحظة قوة. بالإضافة إلى ذلك، لا أعتقد أن لدى العواصم العربية أية أوهام بشأن وجود إرادة طيبة إيرانية، وأن من السهل عليها تصديق أن طهران تخلّت أو قد تتخلّى عن مشروعها التوسّعي التي استثمرت فيه طاقاتها المادية والبشرية أكثر من أربعين عاماً، وأنها أصبحت الآن مستعدّة للانكفاء على حدودها، والانغماس في البحث عن وسائل إرضاء شعوبها ومجتمعاتها.
ولا أشك في أن العرب، وفي مقدمتهم العاصمتان الأكثر تاثيراً، الرياض والقاهرة، حتى في حال ثبات التهدئة المحتملة أو الهدنة السعودية الإيرانية، سيتحملون العيش إلى جانب نظامٍ لا يكفّ عن تهديد أمنهم واستقرارهم. وليس ذلك من باب التضامن مع الشعب السوري، وهذا عاملٌ لا ينبغي تجاهله أيضاً، وإنما أكثر من ذلك، لأن النظام السوري أداة رئيسية من أدوات الحرب الإقليمية الدائرة منذ عقود، التي يسعون جاهدين لإنهائها، وهو صاحب مقولة أشباه الرجال الشهيرة. كذلك فإنني لا أعتقد أن سياسياً عاقلاً في أي منطقة في العالم يقبل أن يستثمر في نظامٍ أصبح جثة متفسّخة تزكم رائحتها الأنوف، ويوصف رأسها بأنه زعيم أكبر كارتيل لتهريب المخدّرات على مستوى المعمورة، أو أن يراهن على أن تخرُج من هذه الجثة روحٌ جديدة عاقلة، وقابلة للتعامل بمسؤولية واتّزان، وتقبل الاحتكام لأساليب التفاوض والحوار. ولا أعتقد أن من مصلحتهم أن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام دولة محورية في المنطقة تتفكّك وتصبح مسرحاً لاستقطاب الصراعات الإقليمية ومستنقعاً لتفريخ الحركات التخريبية. ولعل موقف مصر، كما عبّر عنه وزير خارجيتها في اجتماعه مع مبعوث الأسد، وتأكيده لحتمية التوصل إلى حلّ سياسي بمرجعية الأمم المتحدة والقرار 2254 هو الذي يعبّر عن مصالح الدول العربية، ولا يمكن التفريط به في مواجهة نظامٍ لا يعبأ بأي مفهوم للشرعية، وطنيةً كانت أو عربية أو دولية.
ما يخشاه السوريون من انفتاح العرب على النظام السوري أن يتحوّل إلى دعم سياسي، وربما مالي مجاني، لنظام يرفض الاعتراف بخطأه
ثانياً: واجب السوريين ... ليس هناك من يمانع تبنّي العرب مقاربات جديدة للأزمة الشرق أوسطية، وبالتالي للمسألة السورية. بالعكس، هذا ما يطلبه السوريون المحاصرون كعصفورٍ في قفص تحيط به الأفاعي من كل الجهات. وهم أحوج ما يكونون لتدخّل عربي قوي يساعدهم على الخروج من العزلة التي وضعهم فيها تخلّي المجتمع الدولي عنهم. ما يخشاه السوريون من انفتاح العرب على النظام السوري في المقابل، أن يتحوّل إلى دعم سياسي، وربما مالي مجاني، لنظام يرفض الاعتراف بخطئه، ويصرّ على ادّعاء انتصاره في الحرب الكونية التي شارك فيها، بنظره، العرب جميعهم، وعليهم وحدهم يقع عبء التعويضات ودفع الثمن. وهو يحاول إقناع العرب بضرورة الفصل بين العلاقات الاقتصادية والعلاقات السياسية، بمعنى أن تطبيع العلاقات لا يعطي للعرب أي حقّ في مناقشة الوضع السياسي، ولا الحديث عن أزمة، ولا عن تسوية سياسية، ولا عن قرارات دولية. في هذه الحالة، لن تعني إعادة العلاقات العربية مع الأسد سوى مساعدته على إسقاط القرارات الدولية وتبرئته من التهم الموجّهة إليه، وتلميع صورته بوصفه زعيماً عربياً قومياً ومقاوماً ومنافحاً عن قيم السيادة والوطنية والاستقلال. ومن المفيد أن يعرف العرب أن الأسرة التي حكمت سورية منذ أكثر من نصف قرن، واحتكرت السلطة بكل مستوياتها وأشكالها، أصبحت تعتقد فعلاً أن سورية ملكيتها الخاصة، وأنها وحدها صاحبة الشرعية في الإمساك بمقاليد الحكم والتصرّف بالبلاد والشعب أيضاً حسب ما تراه مناسبة لخدمة مصالحها واستمرارها.
من هنا، حتى يكون لمثل هذه المقاربة العربية الجديدة نتائج ملموسة، ينبغي أن تتوافر لها على الأقل ثلاثة شروط: الأول أن تكون للدول العربية المؤثرة، بموازاة الانفتاح على طهران، مبادرة عربية أكثر تماسكاً تجمع عليها وتضع ثقلها فيها، وتسعى لنيل دعم الدول الكبرى في المنظومة الدولية لها: أوروبا والولايات المتحدة والصين وروسيا، وأن ترتبط المساعدات والإغراءات بضمانات ألّا تذهب المساعدات إلى غير أصحابها أو لتمويل المليشيات وأجهزة القمع والأسلحة الكيميائية والمعتقلات، وأن ترتبط بأجندة واضحة لتطبيق قرار مجلس الأمن 2254، بدءاً بإطلاق معتقلي الرأي وبلورة مشروعٍ مشترك يضمن عودة اللاجئين والمهجّرين والتعويض عن المنكوبين.
الثاني أن يكون هذا التدخّل جزءاً أو تمهيداً للحلّ الشامل لأزمة المنطقة المشرقية بأكملها، وهي الأزمة التي نجمت عن سلسلة من السياسات الخاطئة الغربية والإقليمية والعربية، فلا يوجد حل نهائي ودائم للأزمة السورية التي يجسّدها إصرار النظام القائم على رفض أي تسوية سياسية أو حوار مع الشعب، من دون إخراج المشرق من وضعه الراهن بوصفه ساحة للصراع الإقليمي والدولي. ولن يكون هناك سلام واستقرار في سورية من دون أن يكون هناك تفاهم على بناء علاقات إقليمية على أسس واضحة وقانونية، وتصفية الخلافات المتعدّدة الأيديولوجية والسياسية بين دول المنطقة. ولن يمكن تحقيق ذلك كما حصل في أوروبا بعد الحربين العظميين، ما لم يتم التفاهم بين حكوماتها على تأكيد احترام حدود الدول وسيادتها والحدّ من نفوذ الدول الأجنبية وتحكمها بقرارات الحكومات المحلية، ومن ثم إيجاد مناخ إقليمي يطمئن الدول الصغيرة والكبيرة على أمنها وسلامة حدودها وتكريس جهودها لخدمة شعوبها وتقدّمها.
لا يوجد حل نهائي ودائم للأزمة السورية التي يجسّدها إصرار النظام القائم على رفض أي تسوية سياسية أو حوار مع الشعب
والثالث أن تستعيد النخب المحلية في البلدان العربية موقعها في المعركة الفكرية والسياسية والتنموية، وتخرج عن صمتها وتتجاوز انقساماتها، وتعود إلى شعوبها للعمل على تعبئة طاقاتها لتغيير الأوضاع اليائسة التي تسود في معظم بلدانها، حتى لدى بلدانٍ تملك الكثير من الموارد الطبيعية والبشرية، بسبب سوء التفاهم والتناحر الفكري والسياسي والتبعية للقوى الأجنبية وغياب مفهوم المسؤولية الجماعية.
وبالنسبة إلى المسألة السورية، تقع على النخب الفكرية والسياسية والاجتماعية مسؤولية أكبر، ليس في إيجاد الشروط التي تمنع من تحويل التطبيع الدبلوماسي إلى تأهيل النظام، بل في تقصير زمن المعاناة وتجهيز المجتمع لخوض معركة الحرية والتغيير، فمهما كانت تحوّلات السياسة الإقليمية، ستبقى المعركة في سورية طويلة وقاسية، ونجاحها مرتبط بقدرة السوريين على بناء قطب ديمقراطي شعبي قادر على إقناع الرأي العام السوري أولاً، ثم الرأي العام الدولي والعربي ثانياً بقدرته على إعادة صياغة مستقبل بلده وإقامة النظام الذي يستحقه لقاء تضحياته. وقد حان الوقت كي تلتقي المبادرة العربية من أجل الخلاص من تدخلات الدول الأجنبية وتهديد أمن الدول والشعوب العربية بمبادرة سورية وطنية وشعبية، تعيد بناء التفاهم السوري وإخراج البلاد من مناخ الحرب الأهلية الدموية التي راهن عليها نظام العائلة الأسدية للبقاء والاستمرار. فكما يزيد وقوف العرب مع السوريين من ثقتهم بأنفسهم والانخراط في المعركة الطويلة من أجل تقرير مصيرهم بأنفسهم وتحقيق تطلعاتهم واستعادة حرّيتهم، يشجّع وجود قيادة سورية ذات صدقية القادة العرب على احترام إرادة السوريين وعدم التضحية بحقوقهم، وربما تقديم العون لهم في معركتهم النبيلة.
وقد تكون هذه هي الفرصة المناسبة لمبادرة وطنية سورية وعربية طال انتظارُها، تعمل على تجميع شتات النخبة السورية واستنهاض قوى المجتمع والأخذ بيد الشعب، وتوحيد صفوفه، للخروج من المصيدة التي وضع فيها، فيما وراء خطوط الفصل بين الموالاة والمعارضة. هذه هي الخطوة الأولى والضرورية على طريق الخروج من الأزمة المستعصية القائمة، فما لم يكن للشعب السوري حضوره أو من ينطق باسمه على طاولة المفاوضات إلى جانب الأطراف الأخرى، لا توجد هناك أي ضمانة كي تؤخذ مصالحه وحقوقه بالحسبان، مهما كانت قرابة الأطراف ومشاعر ممثليها.