الاتحاد التونسي للشغل... أزمة داخلية أم أزمة هوية ومكانة؟

02 ديسمبر 2024
+ الخط -

في رسالة جريئة وغير معهودة نشرها قبل أيام، عمد عضو المكتب التنفيذي في الاتحاد العام التونسي للشغل، أنور بن قدور، إلى تشريح ما رآها أزمة خانقة يمر بها الاتحاد، حيث يذكر "أن الاتحاد يعيش أزمة غير مسبوقة من الارتباك وعدم الوضوح"، و"أن الحد الأدنى من العمل المشترك بين أعضاء المكتب التنفيذي لم يعد متوافراً". وبن قدور نجل القيادي البارز للاتحاد، حسين بن قدور، ووجه بارز للخط العاشوري، مع توجه عروبي بارز، تخرّج من الزيتونة، وناصر الخط اليوسفي في بدايات الصراع الداخلي، الخط الذي هيمن على مفاصل الاتحاد العام التونسي للشغل ما يناهز ثلاثة عقود، وسجن مع الحبيب عاشور سنة 1987 على إثر الأحداث الدامية التي عُرفت بالخميس الأسود، راح ضحيتها مئات النقابيين والعمّال.

يعدّ الجامعي المختص في العلوم الهندسية والأمين المساعد المكلف بالدراسات والتوثيق، أنور بن قدّور، ممثلاً نادراً للجامعيين الذين لا وزن لهم تاريخياً داخل الاتحاد، لاعتباراتٍ عديدة، أولها أن قطاع التعليم العالي لم يكن دوماً ممثلاً في المكتب التنفيذي، لاعتباره قطاعاً لا وزن له ديمغرافياً، فكتلته الانتخابية في أثناء المؤتمرات التي تصعّد الهياكل العليا للاتحاد غير مؤثرة، نظراً إلى العدد المحدود للجامعيين، مقارنة بقطاعات أخرى، على غرار قطاع النقل أو البريد أو الصحة أو التعليم الثانوي، إلخ. فهذه القطاعات التي تحدّد تركيبة جلّ الهياكل القيادية للاتحاد، وتتحكّم في توجّهاته الكبرى الاجتماعية والسياسية هي نفسها التي يستعملها الاتحاد مخالب يغرسها في لحم خصومه متى شاء: لقد شلّ بها قطاعات عديدة، حين أجبر على خوض صراعات، أحياناً مع السلطة الحاكمة، أو ذهب إليها طوعاً وعن دراية مسبقة نتيجة توظيفات سياسية للتيارات المهيمنة على مكتبه التنفيذي وهيئته الإدارية عموماً.

أصبح الاتحاد العام التونسي للشغل شبحاً، لم يعد قادراً حتى على الكلام

كانت مواقف الاتحاد العام التونسي للشغل من عشرية الانتقال الديمقراطي منخرطة ضمن هذه الاستراتيجية. قال مرة أمينه العام الأسبق، حسين العباسي، في تصريح شهير: "لقد آلينا على أنفسنا ألا نترك حركة النهضة تلتقط أنفاسها". لا شك في أن الاتحاد استغلّ خطأ الهجوم على مقرّاته ذات يوم، وذهب به بعيداً حد التنكيل بالحاكمين وبالتجربة برمتها، لكي يخوض صراعاً مميتاً مع "النهضة" تحديداً. لم يعد خافياً الآن أن تيارات يسارية وقومية راديكالية وعبثية متحالفة تحكّمت في مواقف الاتحاد. لقد كان شريكاً في جلّ التحرّكات التي استهدفت حكام المرحلة. لم يشفع له حصوله (بالمشاركة) على جائزة نوبل للسلام كي يعتدل في مواقفه، ويلعب دوره الوطني بحياد واستقلالية، بل لقد كان، من حين إلى آخر، ذراعاً لبعض هذه التيارات السياسية، وشكّل معها "شبكات سياسية مدنية" (مبادرات، تحالفات) خاضت صراعات سياسية ليس لها أي علاقة بالدور الاجتماعي النقابي الذي تعوّدناه. لم يكن ذلك مجرّد "انحراف ممارسة" حدثت سهواً أو خطأ أو مجرّد اجتهاد، بل كان ذلك يجري ضمن تنظيرات سياسية وأيديولوجية تجعل من النضال الوطني (السياسي) الأولوية المطلقة على حساب النضال الاجتماعي (المطلبي). لم يجد الاتحاد عُسراً في تبرير هذا المنحى الشرس والعبثي من حين إلى آخر، خصوصاً أن كثيراً من الأدبيات التي راكمتها التيارات السياسية الراديكالية التي تغللت في مفاصله وشكلت ثقافته السياسية في العقدين الأخيرين، من خلال آليات التكوين النقابي، تحوّلت إلى عقيدة ودوغما. تُحسن هذه التيارات إعادة ترتيب الأولويات وإسناد ذلك بمتن أيديولوجي في غاية الترتيب. وقد عمدت، بسرعة، هذه التيارات التي برز ضعفها السياسي من خلال الانتخابات إلى التكيّف مع المرحلة ومقتضياتها، حيث استطاعت أن تجعل من المجتمع المدني، وتحديداً من جمعياته ومن الاتحاد، رمح صراعاتها القاتلة.

تمكّن الاتحاد، في عشرية الانتقال، من المشاركة في الحكم، من خلال وزراء كانوا أعضاءً سابقين في مكتبه التنفيذي أو هياكله الأخرى، ومرّر بهم جلّ مطالبه الاجتماعية. ومع ذلك، وزّع بعناية أدواره: يدٌ تحكم مع الحاكمين، ويدٌ أخرى تلوي عنق الحكومات متى أغضبته أو أغضبت، بالأحرى، شركاءه السياسيين غير المعلنين (الجبهة الشعبية)، بل أصبح بعضٌ من أعضاء مكتبه التنفيذي يتباهون بإعلام انتماءاتهم الحزبية.

واصل الاتحاد هذه اللعبة التي أتقنها بشنّ سلسلة من الإضرابات غير المسبوقة في أكثر القطاعات حيوية: الفوسفات، الصحة، التعليم، إلخ، وهي إضراباتٌ أحصاها المكتب الدولي للعمل ورآها قياسية، حتى انهارت تجربة الانتقال برمّتها، وكان الاتحاد أول من صفّق لذلك. وكان أغلب أعضاء مكتبه التنفيذي على مهجة الرئيس، ولكن حساباتهم كانت ضيقة، فالرئيس لا يرغب في أن يكون له شركاء في مشروعه. توسّل إليه الاتحاد مرات عديدة، غير أنه لم يقبل منهم ذاك، فهو لا يؤمن في عقيدته "بالأجسام الوسطى" التي يعتبرها حاجزاً لا مبرّر له بينه وبين شعبه أو بين المواطنين والدولة، فضلاً عن تحفّظات أخرى ربما صاغها الرئيس بشأن أداء الاتحاد وأساليب إدارته.

الضعف والهوان الشديدان حوّلا اتحاد الشغل التونسي إلى جسم هلامي كبير يهذي بأمجاده، وهو يشرف على هاويةٍ لا ندري قاعها

بعد ما يناهز أربع سنوات من "25 جويلية" (يوليو/ تموز 2020)، عندما حلّ الرئيس قيس سعيّد البرلمان، وبدأ انقلابه على المؤسسات والدستور، أصبح الاتحاد العام التونسي للشغل شبحاً، لم يعد قادراً حتى على الكلام. وكان أمينه العام يصول ويجول شاتماً الحكومات والحكّام، مستهزئاً منهم، مستعرضاً عضلات منظمته في شيء من الفتوة التي لم تخلُ من البلطجة (إضرابات قطاع الصحة، حجز نتائج التلاميذ، التهديد بسنة بيضاء دراسية مرّات عديدة)، الفيتو الذي مارسه على تعيينات الحكومة والوزراء أو مسؤولين في مناصب إدارية أو حتى مشاريع قوانين، إلخ.

جاءت رسالة عضو المكتب التنفيذي في الاتحاد، الجامعي أنور بن قدور، لتؤكّد عمق الأزمة التي يعاني منها الاتحاد، غير أنها ليست، كما ذهب، مجرّد أزمة داخلية ناجمة عن التلاعب بالفصل الـ30 من القانون الأساسي للاتحاد، التي مدّت في أنفاس المكتب التنفيذي، ومنحته حياة إضافية، والحال أن الاتحاد أوشك على إعلان احتضاره وموته السريري غير المعلن، وهي أيضاً ليست مجرّد أزمة الديمقراطية الداخلية في اتخاذ القرار. الأزمة أعمق مما وصفه بن قدور، والحلول التي يقترحها ليست سوى إعادة إنتاج الأزمة. إنها حلول موغلة في البيروقراطية التي ينتفض عليها نقابيون كثيرون حالياً. ما لم يجرِ التطرّق بجدّية إلى مكانة العمل النقابي في القرن الواحد والعشرين، خصوصاً في ظل التحوّلات الديمقراطية الناجحة أو الفاشلة، إضافة إلى أخلاقيات العمل النقابي في زمن التعدّدية السياسية، وانفتاح الفضاء العام من دون طمس المشكل والتحايل عليه. لم يعد من الممكن أن يكون الاتحاد طرفاً سياسياً في لعبةٍ حدّدت الديمقراطية قواعدها: أحزاب تتنافس، انتخابات تبنّي مشروعية الحكم والمعارضة ونقابات تتفاوض اجتماعياً ضمن ما يُتيحه السياق من موازين قوى وإدارة اللعبة التفاوضية الاجتماعية. الشعارات التي رفعها مناضلو الاتحاد في سنوات الديمقراطية والحرّية التي لعنوها وهم مزهوون: "الاتحاد أكبر قوة في البلاد"، أفضت إلى ما هو عليه الآن: هذا الضعف والهوان الشديدان اللذان حوّلاه إلى جسم هلامي كبير يهذي بأمجاده، وهو يشرف على هاويةٍ لا ندري قاعها.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.