الإصلاح والشكوك والفزّاعات
هل هي مصادفةٌ أم سوء طالع أم أمر مقصود أن يتم تفجير حقول ألغام في طريق اللجنة الملكية للإصلاح، بمجرّد أن تبدأ أعمالها لمحاولة اجتراح أفق جديد لتطوير النظام السياسي الأردني؟ انفجرت في الأيام القليلة الماضية قضية الهوية في حادثتين: محاضرة لرئيس الوزراء الأسبق، عبد الرؤوف الروابدة، في مركز الدراسات الاستراتيجية، ومقالة للكاتب عريب الرنتاوي. ومن دون الدخول في تفصيلات ما حدث، كي تصل رسالة هذا المقال، وجدنا أنّ الهواجس المستخدمة عادةً فزّاعات ضد الإصلاح انفجرت فجأة، وكأنّ الفريق المشكّك في جدوى الإصلاح، والمتخوّف من نتائجه، يقول إنّ الأفضل البقاء على الوضع الراهن.
لم يكن تشكيل لجنة الإصلاح الملكية أمراً مرحّباً به من الجميع. فهنالك أكثر من تيارٍ يقف ضد فتح هذا الباب، بذريعة أنّ الأولوية للإصلاح الاقتصادي، وبذريعة الهاجس الهوياتي، وبذريعة أنّ الأوضاع العامة في البلاد لا تحتمل أيّ خطواتٍ إصلاحيةٍ سياسيةٍ، لأنّ المزاج العام محتقن وينتج أراءً ومواقف راديكالية. وبالضرورة، هنالك تيار آخر، في المعارضة، لديه هواجس مشروعة من ألّا تؤدي أعمال هذه اللجنة إلى نتائج ملموسة على أرض الواقع، وأن يكون مصيرُها مثل سابقاتها، إلى الأدراج، أو يتم طحنها على أرض الواقع.
حسناً، إذا كانت تلك هي الذرائع، فإنّ الجواب على ذلك أنّها هي نفسها بمثابة تشديد آخر على أنّ تأخير قطار الإصلاح السياسي سيؤدي إلى مزيد من الكوارث الاجتماعية والثقافية الناجمة، في الأصل، عن غياب أطر الحوار وضعف قنوات التواصل وارتفاع منسوب الشكوك والتفسيرات الأحادية على حساب الهوية الوطنية الجامعة.
ما حدث، على النقيض مما سبق، يؤكّد ويعزّز ضرورة إنجاز لجنة الإصلاح عملها والقيام بمهمتها لتقدّم للمجتمع الأردني مشروعاً سياسياً وطنياً توافقياً، يساعد على تطوير عملية تشكيل مجلس النواب على أسسٍ أكثر صلابة، ويعيد المبادرة إلى الشخصيات السياسية والوطنية التي تمتلك الحكمة واللغة السياسية الحديثة، في مواجهة خطابٍ آخر أخذ ينمو خلال الأعوام الأخيرة، يستند إلى مفهوم هويّاتي ضيّق، ومشحون بالأزمات الداخلية المتراكمة، من اقتصادية وسياسية وثقافية ومجتمعية، ويتكئ على لغة "ما قبل الدولة".
ثمة جيل من الشباب الأردني اليوم يتطلع إلى مستقبل أفضل وأجمل، ويريد أن يرى أفقاً ومخرجاً من الأوضاع الاقتصادية السيئة، وتمثيلاً أفضل لتطلعاته السياسية، ولما وصل إليه من وعي متقدم بأهمية ترسيخ القيم التي تكفل لنا جميعاً "مستقبلاً آمناً"؛ أسس المواطنة والديمقراطية والتعدّدية والكرامة والمساواة والعدالة. وثمّة "صالح عام" يجمع الجميع، وأرض مشتركة واسعة وعريضة، يمكن أن نقف عليها ونبحث عن مصالحنا، دولة ومجتمعاً، لأنّ "اللعبة الهويّاتية" قاتلة، لا يوجد فيها منتصر، وتجارب العرب ماثلة أمامنا، هي لعبة صفرية، لكن للجميع، فالجميع خاسر، والنتائج وخيمة.
وبمناسبة الحديث عن سؤال الهوية، ليس هذا المقال دعوة إلى تجاهل هذا السؤال، بل لمناقشته بمنطق وطني مسؤول محترم، بعيداً عن اللغة الادّعائية والخطابية. فالهوية يمكن أن تكون وعاءً يشمل كلّ المواطنين، وتحملهم إلى سلّم الارتقاء والتطوّر، وتحمّلهم بالمشاعر الجميلة وتعزّز التآخي والوحدة والتكاتف وتطوّر رأس المال الاجتماعي. ويمكن على النقيض من ذلك أن تكون أخطر من الحروب المسلّحة على السلم المجتمعي والاستقرار والأمن الداخلي.
ثمّة فرق كبير في أن تكون هوية الفرد والمجتمع والدولة مدماكاً لتحقيق التقدّم والنهوض، ومعياراً للإنجاز الذاتي والمجتمعي والحضاري، أو أن تكون معولاً لهدم المجتمع وتقسيمه وتجزئته وتفتيته، أو معطىً لـ"الدوران حول الذات". ومن المفيد، هنا، العودة إلى مقاربة الكاتب اللبناني، الفضل شلق، عن الدولة السياسية الاقتصادية في شرق آسيا، وتحديداً التجربة الإسلامية الماليزية، إذ تعاملت مع الهوية في سياق الإنجاز الاقتصادي والتنموي.
ما حدث من تداعيات وأزمات وانفعالات يمثل جرس إنذار لما وصلت إليه حالة المجتمع الأردني الداخلية، ومن الخشية من حالة الاستقطاب الكبيرة التي تحدُث بسرعةٍ على وقع الأزمات الداخلية، ومن استسهال اللغة القاسية والحادّة تجاه بعضنا، وهي ظواهر تذكّرني بمقالة مهمة للصديق، عكرمة غرايبة، كتبها قبل أكثر من عشرة أعوام عن مفهوم "بيت العنكبوت" في النص القرآني، وأسقط عليه مفهوم "المجتمع العنكبوتي"، الذي يتسم بالهشاشة والضعف البنيوي الداخلي والالتواء، وهي بيئةٌ سهلة للتلاعب بها وإضعافها. ومن الضروري أن أدعو، مرّة أخرى، إلى قراءة كتاب "الثقة" لفرانسيس فوكوياما، لنرى أهمية قيمة الثقة داخل المجتمع في حمايته وقت الأزمات أو تفكيكه وإضعافه.