الإشراف القضائي على الانتخابات المصرية ... حدود الاستقلال وآليات الهيمنة

09 ابريل 2023

(Getty)

+ الخط -

مرّة أخرى، يُثار الجدل في مصر في قضية الإشراف القضائي على الانتخابات، بعد أن ناقشها مجلس أمناء الحوار الوطني الذي لم يبدأ جلساته بعد، مطالبا باستمرار هذا الإشراف، وهو ما قوبل بموافقة رئيس الجمهورية، وكأن هذا الإشراف طوق النجاة لتحقيق النزاهة. ويأتي هذا بالتوازي مع نقاش آخر في الانتخابات الرئاسية المفترض إجراؤها عام 2024، فما هي حدود هذا الإشراف القضائي؟ وهل حقق أهدافه في تنظيم انتخابات نزيهة كما يريدها ملايين المصريين؟

ينصّ دستور 2014 على إجراء الاقتراع، والفرز في الانتخابات، والاستفتاءات التي تجرى حتى 2024، تحت إشراف كامل من أعضاء الجهات والهيئات القضائية، وقد أوكل للهيئة الوطنية للانتخابات هذه المهمة التي لم تنشأ إلا عام 2017، بموجب القانون 198، وكانت تلك الهيئة مطلبا رئيسيا للقوى السياسية طوال عصر حسني مبارك. وكان القضاء سابقا يشرف على هذه الانتخابات وفقا لنصوص دستور 1971 على اللجان العامة من خلال إشراف ما تسمى "اللجنة العليا للانتخابات"، والتي يترأسها رئيس محكمة استئناف القاهرة، وتضم في عضويتها شخصياتٍ عامة من المقرّبين للحزب. بينما يقوم على إدارة الهيئة الوطنية للانتخابات مجلسٌ مكوّن من عشرة أعضاء من بين نواب رؤساء المحاكم والهيئات القضائية، يختارهم مجلس القضاء الأعلى ومجالسهم الخاصة، ويصدُر بتعيينهم قرار من رئيس الجمهورية. وتكون رئاستها لأقدم أعضائها من محكمة النقض.

ويتضمّن التعديل المقرّر إجراؤه أن تجري الانتخابات وفق نظام قاض لكل صندوق، وهو ما سبق أن أكّده حكم شهير للمحكمة الدستورية عام 2000 بشمول إشراف اللجان الفرعية، وألا يقتصر على اللجان العامة، وقد حقق هذا الحكم اختراقا جزئيا في جدار انتهاكات السلطة العملية الانتخابية. وبهذا التفسير، نجح مرشّحو "الإخوان المسلمين" بعدد معقول من المقاعد في انتخابات 2000 و2005، فيما لم يمنع تدخّل السلطة لاحقا إسقاط باقي مرشّحيهم بمنع الناخبين من دخول اللجان، وانتهى الأمر بتزوير انتخابات 2010 التي أدارها رجال جمال مبارك، وكانت أحد عوامل قيام ثورة 25 يناير (2011).

مع ذلك، لا تزال الانتقادات التي كانت توجه للانتخابات هي ذاتها ولم تتغيّر كثيرا، إذ يسمح القانون الخاص في الهيئة بانتداب العاملين المدنيين في الدولة لإدارة لجان الاقتراع والفرز، ويعين رئيس الجمهورية الطاقم التنفيذي الذي يدير الجانب الإداري (مدير تنفيذي وثلاثة أعضاء)، وهو ما يؤشّر إلى تدخّلاتٍ خارجيةٍ في شؤون الهيئة، كما أن القضاء الإداري يفصل في الطعون المقدّمة ضد قرارات اللجنة من دون عرضٍ على هيئة المفوّضين في المحكمة، ويعدّ حكمها نهائيا وغير قابلٍ للطعن، وهو ما يغيّب ضمانة أخرى للمرشّحين. وكان نوابٌ مستقلون قد شكوا في الانتخابات الماضية من دور الهيئة والنتائج النهائية التي أعلنتها، وتتناقض مع نظيرتها المعلنة من اللجان الفرعية، وتزايد انتقاد دورها أيضا في ما يتعلق برفض تشكيل قوائم محسوبة على المعارضة وقيدها لقوائم أخرى مقرّبة من الدولة.

تعرّض استقلال القضاء لعدة تحديات في السنوات الأخيرة بموجب تعديلات الدستور عام 2019، والذي أعطى لرئيس الجمهورية أدوارا إضافية باختيار رؤساء الهيئات القضائية

المهم هنا أن هذه الهيئات لا تعمل في فراغ، ولا يمكن تقييم دورها بمعزل عن الواقع السياسي القائم، والذي تجرى الانتخابات في سياقه، بما يحمله من توازنات وهيمنة للسلطة التنفيذية على نظيرتها التشريعية وعلاقة السلطة الملتبسة بالقضاء، وميول القطاع المهيمن من القضاة إلى عدم الصدام مع جهاز الدولة والاحتفاظ بامتيازاتهم الخاصة.

من جهة أخرى، تعرّض استقلال القضاء لعدة تحديات في السنوات الأخيرة بموجب تعديلات الدستور عام 2019، والذي أعطى لرئيس الجمهورية أدوارا إضافية باختيار رؤساء الهيئات القضائية، وهو ما يخالف الوضع السابق الذي كان يتبنّى معيار الأقدمية ويخوّل هذا الدور للهيئة القضائية ذاتها.

ولا ينبغي نسيان المواجهة التي خاضتها السلطة التنفيذية مع تيار استقلال القضاء في عصر مبارك في الفترة 2005 ـ 2010، والتي استمرت مع قدوم عبد الفتاح السيسي باستخدام آليات الترهيب والترغيب، من خلال اختيار القُضاة الذين تظهر سجلاتهم غياب أية ميول استقلالية لتولّي رئاسة هيئاتهم، وتعيين بعضهم فيما بعد في مناصب سياسية وحزبية.

بينما تمثلت توجّهات الحصار والإقصاء في الدور الذي لعبته وزارة العدل ونادي القضاة المقرّب من الدولة بالدعوة إلى فصل قضاة كثيرين بتهمة انتمائهم لجماعة الإخوان المسلمين والاشتغال بالسياسة، وإجراء محاكمات جنائية وحبس رموز من هذا التيار، في مقدّمتهم المستشاران محمود الخضيري وهشام جنينة الذي عين رئيسا للجهاز المركزي للمحاسبات في عهد الرئيس الراحل محمد مرسي، ثم فصل لاحقا بموجب قانون إقالة رؤساء الهيئات المستقلة، وسجن خمس سنوات بتهمة نشر أخبار كاذبة! بالإضافة إلى إجراءات التأديب والصلاحية ضد آخرين، منهم المستشار زكريا عبد العزيز وعاصم عبد الجبار وهشام رؤوف وناجي دربالة.

ويأتي في السياق نفسه اختيار رئيس القضاء العسكري نائبا لرئيس المحكمة الدستورية، وهو ما يرشّحه رئيسا للمحكمة مستقبلا، والذي يطيح أي استقلال حقيقي لها. بالإضافة إلى استمرار تبعية الشهر العقاري للإدارة، وهو الجهة المخوّلة بإصدار التوكيلات للمرشّحين ولمندوبيهم ووكلائهم، ويضع علامات استفهام كثيرة حول استقلاليته.

المنظومة السياسية ترسّخ هيمنة السلطة التنفيذية، وتهمّش باقي السلطات والأحزاب، وتتلاعب بنصوص الدستور بقوانين معيبة

وينبغي تأكيد أن قصر اختصاص الهيئة الوطنية على إجراءات الترشّح والتصويت لا يؤدّي، بالتبعية، إلى نزاهة تلك الانتخابات، وبشكل خاص في ظل استمرار التشريعات المنظمة للعملية لانتخابية التي صمّمتها السلطة التنفيذية، ووافق عليها برلمان مصنوع من أجهزة الدولة العميقة ذاتها، بما يؤدّي، في النهاية، إلى هيمنة التحالفات المساندة للنظام، والتي تضم نخبة رجال الأعمال ورجال الشرطة والجيش السابقين والنواب السابقين الذين كانوا جزءا من نظام مبارك والحزب الوطني السابق.

وبدون إعادة الاعتبار لمنظومة قانونية جديدة، تؤكّد الحقّ في الانتخاب والترشح والدعاية الانتخابية ودور منظمات المجتمع المدني المستقلة بالرقابة على العملية الانتخابية، واحترام الحقّ في التجمع السلمي يصبح الإشراف القضائي مجرّد شكل مفرغ من مضمونه، توجّهه الدولة كما تريد. ولا يعصم الانتخابات من تدخلات أجهزتها العميقة في كل إجراء، بوضع العراقيل أمام المرشّحين المستقلين، وهو ما حدث في انتخابات 2018 الرئاسية التي استبعد فيها كل المرشّحين ذوي الثقل، بمن فيهم القادمون من داخل جهاز الدولة ذاتها.

في ظل هذه المنظومة السياسية التي ترسّخ هيمنة السلطة التنفيذية، وتهمّش باقي السلطات والأحزاب، وتتلاعب بنصوص الدستور بقوانين معيبة، لا يمكن الحديث عن انتخابات مستقلة، وهي مقيدة بقواعد النظام السياسي الواحد. وأي انتخابات تجرى في هذا المناخ لن تتمتع بالنزاهة من دون استقلال حقيقي لسلطة قضائية تستطيع اختيار رؤساء هيئاتها بعيدا عن تدخلات السلطة التنفيذية، ومناخ يحترم حريتي الرأي والتعبير وممارسة العمل السياسي والحزبي، ورقابة دولية لكل إجراءات العملية الانتخابية، وتغيير منظومة القوانين الخاصة بالانتخابات والتراجع عن التعديلات الدستورية التي جرت في 2019، وإعادة النظر في القانون الخاص بالهيئة الوطنية للانتخابات ذاته.