الإسلام السياسي والديمقراطية سؤالاً وممارسة
ظهر مصطلح الإسلام السياسي في أواخر القرن العشرين المنصرم، كي يوصف حركات وأحزابا سياسية تنظر إلى الإسلام بصفته ليس ديناً فقط، بل نظاماً سياسياً شاملاً يدمج الدين بالحكم، ويتوجب على كل المسلمين اتباعه وجوباً عقائدياً. وعلى الرغم من إقرار مناف الحمد، في كتابه "ديمقراطية الإسلام السياسي بين الممكن والمستحيل" (دار خواطر، إسطنبول، 2022)، استحالة الربط المفهومي بين الإسلام والسياسة، بالنظر إلى أن المصطلح يربط بين مجالي الدين والسياسة، إلا أن ذلك لم يمنعه من اعتماده في سياق محاولة البحث عن علاقة الإسلام السياسي بالديمقراطية، من خلال تلمّس شكل العلاقة بين أطروحات بعض حركات الإسلام السياسي وأحزابه بشأن الديمقراطية، وتتبع العلل الفاعلة لما باتت تُدعى "ظاهرة الإسلام الديمقراطي"، عبر تناول الجدل في الديمقراطية في العالم الإسلامي، بالاستناد إلى أطروحات أبو الأعلى المودودي ويوسف القرضاوي، اللذيْن طالبا بتشذيب مفهوم الديمقراطية، من أجل ملاءمته مع القيم الإسلامية، ووضعه تحت قبة التشريع الإسلامي. ثم ينتقل إلى تناول خطابات ثلاث تجارب للإسلام الديمقراطي في كل من تركيا ومصر وتونس، ليتوقّف عند تجربة جماعة الإخوان المسلمين السوريين، بعد عرض أوجه الاختلاف والتشابه بين فرع "الإخوان" السوري والتنظيم الأم في مصر، والدور الذي لعبه "الإخوان" في تشكيلات الثورة السورية السياسية والعسكرية، التي ساهم الإخوان المسلمون في تشكيلها أو دعمها، ثم ينهي كتابه بتقديم خلاصة عن علاقة "الإخوان" بالديمقراطية، ومناقشة بعض الرؤى الجديدة التي تناولتها.
يرى المؤلف أن قدرة تيارات إسلامية على خوض التجارب الديمقراطية في كل من تركيا وتونس ومصر، تطرح أسئلةً حول مدى قدرة الفعل الحركي على تغيير زاوية النظر إلى العلاقة بين الإسلام السياسي والديمقراطية، خصوصا بعد أن أضحت الديمقراطية في العالم المعاصر النظام الذي ترنو إليه أنظار شعوبه، وقد بلغ من سطوته أن أنظمةً استبداديةً صارت تنعت نفسها بالديمقراطية. كما أن نجاح حزب العدالة والتنمية في تركيا في التوفيق بين الجذر الإسلامي والقيم الديمقراطية، بات يمثّل تحدّياً للقائلين باستحالة التوفيق بين الإسلام والديمقراطية، إضافة إلى أن ما كرّسه حزب النهضة في تونس، بعد إطاحة نظام بن علي، من ممارسة ديمقراطية، يؤسّس لقدرةٍ على تكييف الديمقراطية مع الخصوصية المحلية للمجتمع التونسي، فضلاً عن أن تجربة الإخوان المسلمين القصيرة في الحكم في مصر تفسح المجال أمام فتح النقاش في حدوث تطوّر جدّي في موقف الجماعة الأم لحركات الإسلام السياسي في العالم العربي من الديمقراطية، سواء على صعيد التنظير أم الممارسة.
يسعى المؤلف إلى تتبع تجارب الإسلاميين مع الممارسة الديمقراطية، وكشف كيفية استثمارهم مكوناتها، من جهة المساواة السياسية، وحكم الأكثرية، والشرعية السياسية. إضافة إلى الكشف عن السياقات المحلية والخارجية التي أحاطت بانبثاق إسلام ديمقراطي في بعض الدول، والاستفادة من التجارب المذكورة في معرفة إمكانات تأسيس لقاء بين الإسلام السياسي في سورية والديمقراطية.
نجاح حزب العدالة والتنمية في تركيا في التوفيق بين الجذر الإسلامي والقيم الديمقراطية، بات يمثّل تحدّياً للقائلين باستحالة التوفيق بين الإسلام والديمقراطية
لا يخلو الأمر من أهمية، كونه يطاول البحث عن منهجٍ جديدٍ لفهم علاقة الإسلام السياسي بالديمقراطية، التي تسجل قبول الإسلاميين بالممارسة الديمقراطية، منذ مارسها الإخوان المسلمون السوريون في مرحلة ما بعد الاستقلال، إضافة إلى ما شهدته هذه العلاقة منذ بداية تسعينيات القرن الماضي مع تجربة حزب الرفاه التركي، وما أفرزته ثورات الربيع العربي من وصول حزب النهضة والإخوان المسلمين إلى السلطة، بشكل ديمقراطي، في كل من تونس ومصر. ولكن السؤال هنا يتعلق بإمكانية البناء على أطروحات حركات الإسلام السياسي وأحزابه التي اختارها المؤلف، وحصرها في التي تنتمي إلى الحركات السنّية، ولم يقدّم أي حركة تنتمي إلى الطائفة الشيعية. كما أن البناء لا يستوي على القواسم المشتركة القليلة بين حركات الإسلام السياسي السنيّة، وخصوصا أن الظروف المحلية أثرت بوضوح في تطوّرها السياسي، حيث تأسّست جماعة الإخوان المسلمين السورية مثلاً في عشرينيات القرن الماضي، فيما تأسّس حزب (حركة) النهضة في ثمانينيات القرن الماضي، وحزب العدالة والتنمية في بداية الألفية الثالثة. كما أن جماعة الإخوان المصرية، العباءة الأكبر تاريخياً للحركات اللاحقة، تأسّست في عام 1928، واتسمت سيرورة نشاطها باللجوء إلى العنف في أحيان كثيرة في صراعها على السلطة مع السلطات المصرية المتعاقبة، والتي انتهت بإجهاض تجربتها الديمقراطية بانقلابٍ عسكري، ثم حظرها واعتبارها منظمة إرهابية. فيما لا يزال حزب النهضة قانونياً في تونس، و"العدالة والتنمية" هو الحزب الحاكم في تركيا منذ عام 2002.
يُظهر الواقع حقيقة وجود اختلافاتٍ كبيرة في نظرة الأحزاب الثلاثة إلى الديمقراطية، وأطروحاتها المبنيّة على أساس الاختلافات السياسية والثقافية بينها، حيث لم يعرّف حزب العدالة والتنمية نفسه إسلاميا، وإنما حزبا محافظا، أما الإخوان المسلمون في مصر، فقد تجنّبوا مناقشة النظام المثالي للحكم، إذ فضّل حسن البنا إنشاء نظام حكم إسلامي تحكُمه الشريعة، ودعم بشكل غامض وحدة المسلمين. ودعا يوسف القرضاوي إلى الوسطية بوصفها من أبرز خصائص الإسلام، ويعبّر عنها بالتوازن والاعتدال. وجادل الإخوان المسلمون المصريون بأن أساس الديمقراطية التمثيلية يمكن العثور عليه في مبدأ الشورى الإسلامي، في محاولة منهم لأسلمة الديمقراطية، عبر تأكيد أن الأمة مصدر السلطات في الإسلام. واستخدم "الإخوان" القرآن الكريم، على نطاق واسع، مصدرا للتوجيه لتطوير عقيدتهم السياسية، في حين أن حزب النهضة اختار نهجاً أكثر شمولاً، ورفض احتكار السلطة، حيث اعتبر زعيمه راشد الغنوشي أن الانتخابات تمنح تفويضاً ديمقراطياً، لكن هذا التفويض يجب أن يُمارَس بطريقة شاملة.
رفض الإخوان المسلمون السوريون الشكل العلماني للدولة بشكل صريح، وأصرّوا على أن يكون دين الدولة هو الإسلام في خطاباتهم وأدبياتهم
يستند المؤلف إلى أن جماعة الإخوان المسلمين في سورية الإخوان لم تدّع أنها أشعلت شرارة الثورة السورية، لكن قادتها أظهروا رغبة كبيرة في تصدّر تمثيلها سياسياً، فنظّموا مؤتمراتٍ عديدةً من أجل احتلال مواقع قيادية في هيئات المعارضة السياسية، فضلاً عن دعمهم وتشكيلهم فصائل مسلحة عديدة، وراح بعض قادتها يردّد أن الثورة السورية هي امتداد لثورة ثمانينيات القرن المنصرم، التي يقام بها الإخوان المسلمون، وذهب الأمر بهم إلى حدّ إطلاق اسم غزة "إبراهيم اليوسف" على معركة فك الحصار عن حلب، كما أطلقوا اسم مروان حديد على غزوة أخرى. ورفض الإخوان المسلمون السوريون الشكل العلماني للدولة بشكل صريح، وأصرّوا على أن يكون دين الدولة هو الإسلام في خطاباتهم وأدبياتهم، وعلى الرغم من إقرارهم وثائق تطالب بالدولة المدنية وبنظام جمهوري وديمقراطي قائم على المواطنة، إلا أن الديمقراطية حضرت فيها مشروطة بسقف قطعي الدلالة من النصوص، وليس بأنها أداة لإدارة المجتمع والسياسة.
جماعة الإخوان المسلمين المصرية هي الممثل الأبرز والأول لظاهرة الإسلام السياسي السنّي، وتمكنت لاحقاً من تأسيس فروع لها في جميع أنحاء العالمين العربي والإسلامي. وقد أغرت الثورة الإيرانية، التي ينتمي قادتها إلى الإسلام الشيعي حركات الإسلام السياسي السنّي بإمكانية استنساخ التجربة بالسيطرة على الدولة وأسلمتها، الأمر الذي أدّى إلى بروز اجتهادات، أفضت إلى انشقاقات الإسلام السياسي حول طرائق الهيمنة والسيطرة، وبرزت توجّهات راديكالية ومتشدّدة، تؤمن بالقوة المسلحة في التغيير، كما ظهرت، في المقابل، توجهاتٌ محافظةٌ سلمية، تموضعت في إطار الدولة الوطنية، وراحت تعمل من خلال أنظمتها ومؤسّساتها، مستثمرة فضاءات الديمقراطية ومناخات الحرية.
لا يعدم الأمر أن بعض حركات الإسلام السياسي قامت بما يشبه الانقلاب على المفاهيم والأفكار الإسلامية التي كانت سائدة، حيث اختارت تغليب الحقوق على الواجبات، ودمجها مع التديّن، إضافة إلى دمج الإيمان مع الحريات، وباتت أطروحاتها تعبّر عن نتاج صيرورة أقلمة ما يمكن تسميتها "تعاليم التدين الإسلامي" وتكييفها مع العملية الديمقراطية، من أجل الوصول إلى الحكم. واستدعى ذلك تخلّي بعض حركات الإسلام السياسي عن كثير من شعاراتها وأهدافها وفلسفاتها التي تأسّست عليها، وشكّلت جوهر فكرها وخطابها السياسي والديني، مثل إقامة الدولة الإسلامية، وتطبيق أحكام الشريعة، والإسلام هو الحل، وأسلمة المجتمع، ومواجهة التيارات العلمانية، وباتت تقبل الديمقراطية صيغة نهائية لنظام الحكم، وبالتعدّديات السياسية والدينية والثقافية، وفصل الدعوي عن السياسي، وتمييز المجال الديني والوعظي والفقهي عن المجال السياسي والعمل الحزبي، الأمر الذي عنى تحوّلها إلى أحزاب سياسية محترفة، ضمن الممارسة الديمقراطية. وهذا ينطبق تماماً على حزب العدالة والتنمية في تركيا، وبدرجة أقل على حزب النهضة في تونس وحزب العدالة والتنمية في المغرب، لكنه لا ينطبق على جماعة الإخوان المسلمين المصرية أو السورية، لأن هذين الحزبين لم يندمجا في المجال الوطني والديمقراطي والسياسي في كل من مصر وسورية، ولم يتخلّ كلا الحزبين عن شعارات وأفكار راديكالية كثيرة، مثل دولة الشريعة أو دولة الخلافة، والأمة الإسلامية، وأسلمة المجتمع، وسوى ذلك.
باتت حركات في الإسلام السياسي تقبل الديمقراطية صيغة نهائية لنظام الحكم، وبالتعدّديات السياسية والدينية والثقافية، وفصل الدعوي عن السياسي
الحاصل أنه على الرغم من التغيرات والتحوّلات التي حدثت في خطاب بعض حركات الإسلام السياسي، وأثّرت كثيراً على ممارساتها السياسية، إلّا أن الشكوك ما زالت تعتريها، بالنظر إلى أن اللعبة السياسية تحتمل إحداث تغيّرات في الخطاب والسلوك، من باب التورية وممارسة التقية، بغية نيل المراد، وهو الوصول إلى الحكم، وبعدها لن تكون الأمور مثل سابقاتها، إذ إن ما بعد الوصول إلى السلطة ليس كما قبله بتاتاً. إضافة إلى أن حركات الإسلام السياسي وأحزابه ينظران إلى الديمقراطية من جهة مقايستها بالشورى، وقربها إلى الوجدان الجمعي للشعوب العربية والمسلمة، وإثبات أسبقيتها على الديمقراطية، واستحضار مفاهيم تراثية وللبرهنة على أفضليتها ومشروعيتها. يضاف إلى ذلك عجزها عن تقديم إجابات لمشكلات الحكم والاقتصاد، وفقدانها المنظور التاريخي المقترن باستعادتها الدائمة لماضٍ مثالي، وبفقرها الاجتماعي برفضها التعدّد والتنوع، مقابل قدرتها الكبيرة على أدلجة الخطاب الإسلامي وتسيّسه.
اللافت أن المؤلف لا يبني على التساؤل حول مدى تمثيل الإسلام الديمقراطي نمطاً جديداً من أنماط الإسلام السياسي، الذي يجمع بين الهم المحلي والتشوّف العالمي، ويذهب إلى الرد على دعوى فشل الإسلام السياسي، التي طرحها مختصّون بدراسة هذه الحركات، معتبراً أنهم يوجهون اتهامات تمارس الانتقائية في سبرهم أدبيات الإسلاميين، التي لا تخلو من استثمار التشريع الإسلامي، بما يعني شموليته لكل أبعاد الزمان، بالإضافة إلى تمحورها حول فلسفة المقاصد، التي تنظر إلى الإنسان وما يحيط به من ظروف، وبما تتطلبه ذاته البشرية من مصالح.