الإدانات لن تكفي لمنع تكرار محرقة حوّارة

10 مارس 2023

ممثل الاتحاد الأوروبي للأراضي الفلسطينية في منزل في حوّارة أحرقه مستوطنون (3/3/2023 Getty)

+ الخط -

العدوان الهمجي المبَيت على بلدة حوارة إلى الجنوب من مدينة نابلس غير مسبوق منذ أحداث النكبة الفلسطينية في العامين 1947 و1948، لا في حجمه، ولا في الوسائل التي استخدمت فيه. وبطبيعة الحال، جاء هذا الحدث المفصلي بمثابة تتويج لسلسلة غير منقطعة من الهجمات الإرهابية التي شهدت في السنوات العشر الأخيرة تصاعدا نوعيا وكمّيا، طاول كل ناحية في الضفة الغربية، وبخاصة في مناطق الخليل ونابلس والقدس. وأي متابع لوتيرة العنف والإرهاب الذي يرتكبه المستوطنون في الضفة الغربية في السنوات العشر الأخيرة على وجه الخصوص لا يمكنه إلا أن يستنتج أن محرقة حوارة كانت مسألة وقت لا أكثر، وأنها لن تكون الأخيرة أو الوحيدة.

لا يُقصد من تعبير محرقة الوارد هنا تشبيه ما حصل بالهولوكوست، ليس لكي يدفع الكاتب عن نفسه "شبهة" مساواة المحرقة النازية أو "البوغرومز" بما يحصل للفلسطينيين على أيدي ضحايا هذه المحارق من اليهود الصهاينة. ولعل من لجأ إلى هذا التوصيف أراد منه إثارة هذا البعد الأخلاقي للتاريخ، والذي يًظهر جليا مقدار الانحطاط الأخلاقي للصهيونية، وبخاصة عند أجنحتها القومية - الدينية الفاشية. ولكن لجوهر الإرهاب اليهودي - الصهيوني ضد الفلسطينيين خصوصيته، بل تفرّده إذا ما أخذنا في الاعتبار عوامل تاريخ الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، وحاضر النظام الدولي ووضع "إسرائيل" فيه. ومن شأن تكرار استخدام المفردات ذات الصلة بالهولوكوست وتاريخ عذابات اليهود في أوروبا لتوصيف الحالة الفلسطينية أن يصرف النظر عن مسألتين مرتبطتين حصريا بالحركة الصهيونية وإسرائيل: الأولى أن إرهاب المستوطنين مرتبط عضويا وبالضرورة بمشروع استعمار- استيطاني توسّعي. والثانية هي السياق القانوني لهذا الإرهاب الذي تم تحت غطاء قوانين الفصل العنصري السائدة في المناطق الفلسطينية المحتلة.

إلى جانب ذلك، ولا يقل عنه أهمية، من شأن استعارة مفردات الهولوكوست أن تعطي انطباعا بأن أي حديث عن معاناة الفلسطينيين لا بد له من اكتساب شرعية دولية وبالذات في أوروبا من خلال استحضار هذه المفردات. وكأننا نسلّم بأن اليهود (وإسرائيل بادّعائها أنها الممثل الوحيد لمعاناتهم) هم من يحتكرون رواية الآلام وعذابات التمييز والملاحقة، ولا يجوز ذكر أية عذابات من دون تبريرها باللجوء إلى مفردات الهولوكوست. من هذه الزاوية، يجب أن يوضع ما حدث في حوارة في سياقه التاريخي، وفي حاضر عذابات الفلسطينيين، وبلغة خاصة بالسردية الفلسطينية والنكبة المستمرة منذ قرن.

التجاهل المتعمّد للوضع القانوني والحقوقي في المناطق الفلسطينية المحتلة هو تواطؤ خطير ساهم في الإحساس الدائم بالحصانة الذي تتمتع به إسرائيل

لم تكن المعاناة المستمرّة للفلسطينيين، والتي تجلت في حوارة حدثا معزولا، ولا ردّة فعل على مقتل مستوطنيْن في البلدة. إنها النتاج المنطقي الوحيد للتحولات الكمّية التي طرأت على بنية الاستيطان وحجمه في المناطق المحتلة في سنوات ما بعد "أوسلو"، حيث يبلغ عدد المستوطنات والبؤر الاستيطانية اليوم حوالي 200، بينما قفز عدد المستوطنين إلى حوالي 800 ألف، مقارنة بـ120ألفا عددهم في العام 1992. أما نوعيا، فقد تحوّلت معظم الضفة الغربية إلى حيّز مكاني وجيو- سياسي يخضع بالكامل لسطوة المستوطنات المدعمة بمنظومة عسكرية وأمنية ولوجستية عملت على فصل الفلسطينيين عن أرضهم وحيّزهم. وقد تعزّزت المنظومة لفعل التقسيم المفتعل للمناطق المحتلة إلى تصنيفات A,B,C.

تصبح هذه الملاحظة أكثر وضوحا إذا ما نظرنا إلى إرهاب المستوطنين باعتباره أحد أهم تمثّلات عقيدة الاستعمار- الاستيطاني المشفوع بإيمان "توراتي" يستمدّ مقولاته من "سفر يهشوع". ثمّة تكامل صريح بين العنف والتوسّع، حيث تنطلق غالبية الهجمات الإرهابية من البؤر الاستيطانية و/أو المستوطنات التي تتمركز فيها المجموعات الإرهابية، مثل مجموعات "تدفيع الثمن" و"فتية التلال". وقد أشار إلى هذه الملاحظة تقرير لأوتشا (مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في المناطق المحتلة) والذي وثق في العام 2008 وحده 131 من مجموع 290 هجوما إرهابيا للمستوطنين على شكل جماعات.

وبينما تتوالى بيانات الإدانة للهجوم على حوّارة، فإن اللغة المستخدمة في هذه البيانات محاولاتٌ خطيرةٌ للالتفاف على الطبيعة البنيوية لإرهاب المستوطنين. على سبيل المثال، يصف بيان ست دول أوروبية ما يحصل بأنه "العنف العشوائي للمستوطنين"، ويطالبون بمحاكمة المشاركين فيه. ووصف الممثل الخاص للولايات المتحدة، هادي عمرو، ما حدث في حوّارة "بالعنف واسع النطاق وغير التمييزي"، وطالب بملاحقة قانونية للمستوطنين المتورّطين فيه. وتدور معظم، إن لم يكن كل، الإدانات العربية والدولية في فلك اللغة ذاتها، فهل هي الاستجابة التي من شأنها أن تُحدث تغييرا في ثنائية الإرهاب - الاستعمار المتصاعدة؟

ستشهد الضفة الغربية، بما فيها القدس، مزيداً من عنف المستوطنين وإرهابهم ما لم يأخذ الفلسطينيون زمام الأمور بأيديهم، للدفاع عن وجودهم وحماية قراهم وبلداتهم

دعونا نعاين السجلّ المفزع لإرهاب المستوطنين في أنحاء الضفة الغربية منذ أكثر من عقد، ونسأل أين كانت هذه الإدانات، وماذا فعل المجتمع الدولي، وبخاصة حلفاء إسرائيل والمدافعين عنها في عواصم العالم الغربي. ولا يدور الحديث هنا عن مجرّد نزعة إحصائية متصاعدة، بل عن ارتباطها بسياسة الدولة والحكومات المتعاقبة التي أنشأت الأساس القانوني والعسكري والأمني الذي حوّل الاستيطان والمستوطنين إلى "دولة". فما يجري لا يمكن اعتباره عشوائيا، أو فعل عصابات خارجة عن القانون، بل عملية منهجية تقع في صلب سياسات الدولة التي أقرّت منذ العام 2018 قانون القومية العنصري، الذي لم تتقدّم أي من الدول المعنية لإدانته أو المطالبة بإلغائه. فمنذ 2008 بدأ عنف المستوطنين وإرهابهم يأخذ منحىً تصاعديا مع كل عام. ففي هذا العام (حسب مكتب أوتشا) حصل 290 هجوما إرهابيا، وهو ما يفوق ما ارتكبوه في العامين 2006 و2007 مجتمعيْن. ووثق معهد "أريج" للبحوث التطبيقية 763 هجوما، جرى معظمها على أيدي مجموعات "تدفيع الثمن" في العام 2014 من بينها 224 هجوما ضد مدنيين فلسطينيين باستخدام مختلف أنواع الأسلحة. وفي العام 2021 سجّلت مؤسسة مدار ومنظمة بيتسيلم 410 هجمات مماثلة، منها 108 ضد المدنيين، وبرزت من بين هذه الهجمات عمليات إطلاق النار من المستوطنين وحدهم أو بمشاركة الجيش على الفلسطينيين، وتحديدا في هبّة أيار 2021، حيث استشهد أربعة فلسطينيين من بين 11 شهيدا على يد المستوطنين. ومنذ بداية العام الحالي (2023) سجلت عدة جهات إعلامية وحقوقية وقوع 131 هجوما للمستوطنين، وجلها ضد المدنيين وقع 21 منها في ليلة واحدة.

اللغة المائعة التي تُستخدم لاستنكار الهجوم على حوّارة تخفي وراء العبارات الصارمة ظاهريا ذلك التخاذل المزمن والجبن السياسي في مواجهة سياسات الدولة في إسرائيل بوصفها هي التي أسّست لهذا الإرهاب، فلا معنى للمطالبة بملاحقة المشاركين في الهجوم على حوّارة، وبخاصة عقب إعلان الجهات المعنية في إسرائيل بأنها أطلقت سراح كل المشتبه بهم لعدم وجود أدلّة. وفي هذه الأثناء، لم تمنع هذه اللغة استمرار مسلسل الهجمات اليومية في غير مكان في كل أنحاء الضفة الغربية. ولا يبدو أن الدول الأوروبية وواشنطن والعواصم العربية راغبة في مواجهة الحقائق، وتريد فحسب أن تمرّ هذه اللحظة بأقل قدر من الحَرَج، ومن دون تداعيات كبرى. وهو موقفٌ مناقض تماما لتقديرات الجهات الحقوقية الدولية ذات العلاقة وتقاريرها.

تتحمّل الدولة في إسرائيل المسؤولية الكاملة عن هذه الجرائم من زاوية القانون الدولي الإنساني الذي يُلزمها بحماية المدنيين الفلسطينيين. وكقوة احتلال عسكري (ناهيك عن أنها نظام فصل عنصري) فإن "إسرائيل" تعتبر في حالة خرقٍ مستمرٍّ وفظ لاتفاقية جنيف الرابعة، في حين تحوّل احتلالها إلى حالة دائمة وغير قانونية. وناهيك عن أن 90% من حالات التحقيق في جرائم المستوطنين تنتهي بإغلاق الملفات من دون توجيه اتهامات، فإن تموضع المستوطنين في قلب استراتيجية التوسّع والضم يجعل عنف المستوطنين عنف دولة، وليس عنف أفراد، وهو ما دفع مقرّرة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فرانشيسكا ألبانيز، إلى المطالبة بتحقيقٍ دوليٍّ في الأحداث والأعمال الإسرائيلية كخطوة ضرورية لمحاسبتها ووضع حد لإفلاتها من العقاب حسب تعبير ألبانيز. وقد تضمّنت تقارير دولية سابقة التقديرات نفسها، واصفة السياسات الإسرائيلية باعتبارها نظام فصل عنصري، واحتلالا دائما فقد صفته القانونية، واستعمارا استيطانيا يعمل منهجيا على حرمان الفلسطينيين من حقهم بتقرير المصير؛ هذا ما جاء على سبيل المثال في دراسة "مجلس بحوث العلوم الإنسانية" الصادر في العام 2009، والذي يفصل مظاهر الفصل العنصري والاستعمار الاستيطاني في الضفة الغربية، والتقرير الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 2022 (تقرير اللجنة الدولية المستقلة الخاصة بتقييم الأوضاع في المناطق الفلسطينية المحتلة. وأخيرا التقرير الذي أصدرته مقرّرة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في سبتمبر/ أيلول 2022).

اللغة المائعة في استنكار الهجوم على حوّارة تخفي وراء العبارات الصارمة ظاهرياً التخاذل المزمن والجبن السياسي في مواجهة سياسات إسرائيل

التجاهل المتعمّد للوضع القانوني والحقوقي في المناطق الفلسطينية المحتلة هو تواطؤ خطير ساهم في الإحساس الدائم بالحصانة الذي تتمتع به إسرائيل، وإذا ما اعتبرنا هجوم حوّارة بالون اختبار للمدى الذي من الممكن الذهاب إليه في توسيع نطاق الإرهاب المسلط على الفلسطينيين وأشكاله، فإن ردود الفعل الباهتة هذه ستكون في صلب حسابات من يقف وراء هذه الهجمات، للذهاب أبعد من حوّارة، بخاصة في ظل الغياب التام لأية حماية للفلسطينيين في المناطق المستهدفة بكثافة من المستوطنين، حيث تتركّز الهجمات في كل من الخليل ونابلس والقدس، وتحديدا في المناطق الريفية المعزولة والمحاطة بالمستوطنات والبؤر الاستيطانية. وما دام القانون الدولي معطّلا ولا يجري تفعيله ضد سياسات الدولة التي ترعى حماية المستوطنين وتشجعهم وتمنحهم للمستوطنين، فإن من غير المتوقع أن نشهد تراجع هوجات الإرهاب المنظّم في كل أنحاء الضفة الغربية على يد المستوطنين المعزّزين بقوات الجيش الإسرائيلي وتحت حمايته، وبالذات في ظل التزايد الكبير لأعداد الضباط والجنود المؤيدين لقوى اليمين الفاشي والتيارات القومية - الدينية في أوساط المستوطنين، حسب التقارير الإسرائيلية.

لقد تقبلت معظم الدول التي دانت الهجوم على حوّارة حكومة الفاشيين الجدد في إسرائيل، وتتعامل معها كحكومة "شرعية" بحكم أنها منتخبة (لنتذكّر، وصل هتلر إلى الحكم عبر صندوق الاقتراع) بالرغم من كل ما تمارسه من سياساتٍ تمثل ضمّا بقوة القانون للضفة الغربية، وتوسّعا استيطانيا على نطاق واسع، وعمليات قتل وجرائم، حيث تمثل هذه الحكومة الحلم الذي انتظره المستوطنون وهي تحقّق لهم قائمة أمنياتهم. ولولا الجريمة في حوّارة لمرت عملية منح الشرعية لتسع بؤر استيطانية قبل الجريمة وقرار بناء آلاف الوحدات الاستيطانية مرور الكرام. واللغة الحادّة لبعض الدبلوماسيين، مثل وصف الناطق بلسان الخارجية الأميركية تصريحات الوزير سموتريتش (مطالبته بمسح حوّارة عن الوجود) بأنها "غبية وبغيضة ومقزّزة" لا ينطوي على أي جدّية سياسية أو دبلوماسية ذات مغزى، ناهيك عن أن سموتريتش ليس غبيا، بل هو في الأصل عضو منظمة إرهابية أصبح وزيرا، وهو الحاكم الفعلي للضفة الغربية اليوم. والحال هذه، ستشهد الأوضاع في الضفة الغربية، بما فيها القدس، مزيدا من عنف المستوطنين وإرهابهم ما لم يأخذ الفلسطينيون زمام الأمور بأيديهم، للدفاع عن وجودهم وحماية قراهم وبلداتهم وحقوقهم في وجه دولة وحكومة ومستوطنين عازمين على محوهم من الوجود.

حسين أيوب
حسن أيوب
أكاديمي فلسطيني، أستاذ السياسة الدولية والسياسات المقارنة في جامعة النجاح الوطنية، عمل أستاذا زائرا في جامعة دنفر في الولايات المتحدة.