الأنصاري وحديث التحولات في الفكر والسياسة

02 سبتمبر 2022
+ الخط -

قدّمتْ مقالات سابقة للكاتب في "العربي الجديد" محاولاتٍ اجتهدت في الأكاديميا الغربية ومدرسة الاستشراق الذي كان بعض المشتغلين فيه من أصول عربية، في رسم خرائط الاتجاهات الفكرية والسياسية والثقافية المختلفة. وكما لوحظ، جعل هؤلاء جميعا من الاحتكاك بالغرب وردود الأفعال في المنطقة العربية ومن مفكّريها الأساس الذي أدّى إلى التحولات في عالم الأفكار، وإلى طرح الأسئلة الجديدة على الفكر العربي، تتعلق بالنهوض وأسبابه والإصلاح ومسالكه، والتغيير وضروراته. وفي هذه المرّة، ننتقل إلى بعض محاولات واجتهادات من مفكّرين عرب آثروا وأثروا هذا النقاش ضمن محاولات فكرية متعدّدة لم تقلّ في قدرتها على رسم الخرائط عن تلك الكتابات التقليدية التي أشير إليها؛ وضمن هذه المحاولات نجد محمد جابر الأنصاري (المولود في البحرين عام 1939) في مؤلفه "تحوّلات الفكر والسياسة في الشرق العربي (1930 -1970)" يعبر عن ضرورة رصد التحولات في عالمي الفكر والسياسة ضمن فترة يراها كاشفة عن تحولات عدة يجب القيام على رصدها والشروع في التعرّف إلى آثارها ضمن مسارات التحوّلات الفكرية مقترنة بفكرة النهوض والإصلاح والتغيير.
وقد استعرض أستاذ دراسات الحضارة الإسلامية والفكر المعاصر طبيعة تيارات فكر النهضة العربية، وقد حرص على تناول الإطار التاريخي لموضوع كتابه الذي حدد مجاله الزمني من 1930 إلى 1970، متناولا التيارات الفكرية التي عرفها الفكر العربي قبل تلك الفترة، ولكن تأثيرها استمرّ إلى حدود زمانه، ولا يزال، فقد تناول التيار السلفي مبيّنا دوره في مواجهة العثمانيين والاستعمار الغربي، ولكنه بيّن أنه تأثر وتراجع بوجود تيار فكري عربي يتوافق مع الغرب، والذي بذل جهودا كبيرة في هذه المسألة، وجمع بين الإسلام والغرب، كما تناول تيار العلمنة الخالصة، مبينا أنه لم يكن له حضور جماعي في بداية الاحتكاك بالغرب، واقتصر على بعض الرموز الفردية، إلا أنه نما وتطوّر وبات له حضور كبير، وإن لم يستطع أن يفرض رؤيته بصورة تامة على الفكر العربي. وللمفارقة فقد أخفق عندما وصل إلى ذروته برفضه التسوية مع الغرب.

أشار الأنصاري إلى التحدي الصهيوني الجديد الذي اختلق، مع بداية اضمحلال السطوة الغربية، ضمانا لمستقبل النفوذ والوجود الغربيين في هذه البقعة الحساسة من العالم

وأشار الأنصاري إلى أن الفكر العربي خلال فترة الدراسة شهد تحولات مهمة، أبرزها عودة إحياء التيار التوفيقي الذي استفاد من إخفاق تيار العلمنة، خصوصا في ظل تصاعد حملات رفض التغريب وبروز اتجاه للتقريب والتوفيق بين التغريب والسلفية. وعدّد الأسباب التي أدت إلى إخفاق الليبرالية في الشرق العربي، معتبرا أن إخفاق الفكرة الليبرالية ليس قصْرا عليه، ولكن التجربة في أماكن أخرى من العالم أثبتت أن غرس هذه الفكرة في غير موطنها يفتقر إلى الأسس الواقعية، مشيرا إلى التحدّيات التي تعرّض لها الشرق العربي، وخصوصا الاستعمار التقليدي والتأثير الضار الذي تركه في تطور المجتمعات العربية، كما أشار إلى التحدي الصهيوني الجديد (في ذلك الوقت) الذي اختلق، مع بداية اضمحلال السطوة الغربية، ضمانا لمستقبل النفوذ والوجود الغربيين في هذه البقعة الحساسة من العالم. ولم يتجاهل الكاتب التأكيد على البعد الديني في هذه المسألة سواء مع التبشير الغربي أو ما يخصّ الكيان الصهيوني وتأثيره في دول المنطقة.
وتناول صاحب المؤلفات العديدة في الفكر والثقافة العربية ما سماها ركائز التحولات الجديدة، بدءا من تسييس "الإسلام العربي؟" متوقفا بتأنٍ وتؤدةٍ أمام هذه المسألة، ومحدّدا ماهية العلاقة بين "الإسلام والعروبة"، خصوصا للفترة موضع البحث؛ لأنه يراها ولا تزال مصدر بلبلة فكرية، ليس على صعيد الفعل العام فحسب، ولكن حتى بالنسبة إلى الطليعة والقادة العرب أنفسهم، كما أشار إلى "تعريب مصر سياسيا"؛ معتبرا أن تعريب مصر يعدّ حقلا نموذجيا يبين تبادل التفاعل بين العروبة والإسلام خلال الفترة محل الدراسة، وكيف أدّى تواصلهما الحميم في ظاهرة إعادة تسييس الإسلام من منطلق قومي عربي إلى ضم أكبر قوة إلى دار العرب الجديدة، بل وجعلها مركز الثقل في هذه الدار، بعد أن كان الامتداد المكاني للفكر القومي لا يتجاوز آسيا العربية. كما تحدّث عن تثوير الطبقة المتوسطة الصغيرة؛ حيث رصد ما طرأ على هذه الطبقة من تغييراتٍ في عديد من بلدان الشرق العربي، وخصوصا مصر والعراق وسورية، وكيف وجدت هذه الطبقة فيلسوفها في شخص الإمام محمد عبده، ومن ثم انعكس تأثّرها به في تحوّلات الفكر العربي، بتبنّيها أفكاره وأطروحاته. وأشار كذلك إلى  المؤسّسة العسكرية الوطنية، معتبرا أن هذه المؤسّسات الثلاث، التربوية والحزبية والعسكرية، التي سيطرت عليها، خلال فترة الدراسة، الطبقة المتوسطة، ونجحت في تثويرها ضد النظام القديم، تتبادل التأثير والتفاعل والمساندة، وأن أي تفسير للتاريخ المعاصر للشرق العربي لا يمكنه إغفال وجود هذه المؤسّسات ونوعية العلاقة فيما بينها، وخصوصا المؤسسة العسكرية.

يرى الأنصاري أن الفترة الأخيرة من دراسته بيّنت كيف تنامت الأشكال والصيغ والروافد التوفيقية الحضارية الجامعة للمجتمع العربي المعاصر

وقارن الأنصاري في كتابه المهم والأكثر شهرة "تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي" بين ما سماه الانشطار العنفي واستعادة التوفيق، متناولا ساحة الشرق العربي بعد الحرب العالمية الثانية، وخصوصا المشكلات الاجتماعية الملحّة، وتقاطعها مع المؤثرات الفكرية الجديدة الوافدة من الغرب والاتحاد السوفييتي، مشيرا إلى أن الشرق العربي عرف المشكلة الاجتماعية، وخصوصا الفوارق الشاسعة بين الفئة المترفة والأكثرية البائسة، مشيرا إلى الصور الكثيرة المعبّرة عن المعضلة الاجتماعية، إلا أن أخطر هذه الصور كان تعبير العنف الاجتماعي الدموي ذاته على أرض الواقع، إلا أنه يعود ويؤكّد أن الجانب التوفيقي المضادّ لهذه الصورة والمقاوم لها تمثل في الانقلاب العسكري الذي أنشأ ثورة 23 يوليو 1952، والذي جاء بدون إراقة دماء، ومثل الطريقة الأكثر مناسبة لحسم العنف الاجتماعي، الباحث عن طريقة للتغيير. ويرى الأنصاري أن الفترة الأخيرة من دراسته بيّنت كيف تنامت الأشكال والصيغ والروافد التوفيقية الحضارية الجامعة للمجتمع العربي المعاصر، وتوصّل إلى أن الروح التوفيقية نافذة إلى صميم التكوينات التاريخية المجتمعية الحضارية وانعكاساتها العقلية والشعورية في هذه المرحلة من التاريخ العربي. 
هكذا قدّم الأنصاري، وفقا لعملية الرصد التي قام بها ضمن فصول كتابه الذي احتواها، واشتغل أيضا بالقضية المتعلقة بـ"الإحيائية السلفية" وكذلك بمسالك التوفيق مع الغرب وقدم تعميما مهما وخطيرا في عدم نجاح الأفكار الليبرالية كما نشأت في الغرب في الوسط العربي، وقدّم في هذا الشأن تفسيرا عاما قد يكون مقبولا، أن تلك الأفكار نشأت في بيئةٍ غير مواتية، ولا تستجيب لمثل هذه المحاولات المتعلقة بالتغريب الشامل أو العلمانية في صورتها الخالصة. ولعل هذا التعميم في حاجةٍ إلى البحث عن أسباب أخرى، غير هذا السبب العام في عدم تجذّر هذه الأفكار الليبرالية والتي قد تعود لا إلى تلك الأفكار نفسها أو التعرف إليها أو ما حملته من مناهضة للمزاج الثقافي العام في المنطقة، ولكن ربما يعود، ضمن عوامل أخرى؛ إلى حامل الفكرة والقدرة على عرضها والحديث عنها في خطابٍ يتلاءم مع حقيقة تلك المنطقة والهويات الثقافية المتعلقة بها، ومن ثم لم يستطع هؤلاء أن يتصلوا بالجمهور العام ثقافة وفكرا، حتى يكون لتلك الأفكار صدىً وقبول، فكان من المهم أن يقوم بعضهم على تطوير الفكرة الليبرالية ذاتها، وتقديمها في طبعة مختلفة تلقى القبول في المنطقة، وتوائم المزاج الثقافي العام، ولعل هذا ظلّ يصم ذلك التيار الليبرالي، ويؤشّر إلى عدم فاعليته وإلى أدائه الاتصالي ولغة الخطاب التي استخدمها.

ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".