الأمم المتحدة وازدواجية المعايير

08 ابريل 2023
+ الخط -

بعد الأهوال التي تعرّض العالم لها في الحرب العالمية الثانية، سعى مؤسّسو الأمم المتحدة إلى إقامة جامعة بين الدول، تعمل على عدم تكرار هذه الأهوال، وتجنبها في المستقبل. واعتبر المؤسّسون ميثاق الأمم المتحدة ملزماً للأعضاء، حيث اعتُبر أعلى مراتب المعاهدات الدولية، وأكثر قواعد القانون الدولي سموّاً ومكانة. ولذلك لم يكن من المستغرب أن تنصّ المادة 103 منه على أنه "إذا تعارضت الالتزامات التي يرتبط بها أعضاء الأمم المتحدة وفقاً لأحكام هذا الميثاق مع أي التزام دولي يرتبطون به، فالعبرة بالتزاماتهم المترتبة على هذا الميثاق". ومعنى ذلك، أنه لا يجوز لأي دولة أن تُبرم أي اتفاق أو أي فعل دولي يتعارض مع القواعد والأحكام الواردة في ميثاق الأمم المتحدة. نظرياً، يمكن اعتبار أي سلوك أو فعل دولي يتناقض مع ميثاق الأمم المتحدة يصبح، بالضرورة، فعلاً أو سلوكاً منافياً للقانون الدولي والشرعية الدولية وخروجاً عليهما.

في الواقع الدولي، لم تجد النيات الحسنة طريقها إلى التطبيق، فلم تتطابق مع الممارسة، وبالتالي، لم تشكل الأمم المتحدة حقيقة "مرجعاً لتنسيق أعمال الأمم وتوجيهها نحو إدراك الغايات المشتركة" نحو السلم والأمن الدولي، والتطور، واحترام حقوق الإنسان، كما تنصّ المادة الأولى من الميثاق.

ربط الأمين العام السابق للأمم المتحدة، بيريث دي كويلار، حالة الفوضى الكونية بأزمة الشرعية قائلاً: "لا شك في أنه، على المستوى العالمي، وفي أقصى الحدود التي تمثلها كبريات الدول المتوفرة على قوة نووية هائلة، من جهة، والشعوب المحرومة والمجرّدة من جهة أخرى، نجد فراغاً سحيقاً، حيث وجب أن تجد الشرعية والسلطة مكاناً لهما"، فالآمال التي بنيت على الأمم المتحدة لم يكن مقيضاً لها أن تتحقّق، ولم يخامر شعوب العالم التي نطق الميثاق باسمها أبداً إحساس بأن الأمم المتحدة ملك لها، وهي لم تنتمِ للشعوب، بل انتمت، في أحسن الحالات، إلى الحكومات، ثم انتمت لعدد قليل منها. لقد شكّلت الأمم المتحدة ميداناً للسياسات العليا، رغم الدور الهام الذي لعبته بالعمل على استقلال شعوب العالم وتحرّرهم من الإمبراطوريات الأوروبية، ووجدوا طريقهم إلى الاستقلال الوطني. مع ذلك، بقيت الأمم المتحدة شيئاً منفصلاً بالنسبة للشعوب.

شكّلت الأمم المتحدة ميداناً للسياسات العليا، رغم الدور الهام الذي لعبته بالعمل على استقلال شعوب العالم وتحرّرهم من الإمبراطوريات الأوروبية

حاولت بلدان العالم الثالث أن تضع المؤسّسة الدولية في قلب الأحداث، لكن الأغلبية التي حشدتها لم يكن في مقدورها سوى أن توصي، لا أن تقرّر، وترتّب على ذلك إحباطٌ شديدٌ لهذه الدول. ورغم تشكيلها أغلبية الأعضاء، لم تستطع أن تنتصر على الأقلية التي كانت تمارس السلطة الفعلية في مجلس الأمن، بل فقدت الأمل بذلك مع مرور الوقت، وسقطت في الإحباط وتخلّت عن أوهامها.

ولدت الأمم المتحدة في سان فرانسيسكو، وهي تحمل سمةً اعتبرت "مؤقتة"، وهي تشكّل مجلس الأمن وإعطاء بعض أعضائه حق النقض (الفيتو)، التي منحت للأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، وهي الدول التي انتصرت في الحرب العالمية الثانية، كانت هذه الدول مقتنعة بأنه ينبغي أن تكون لها سلطات خاصة في المستقبل، رغم القبول الرسمي لمبادئ المساواة بين الدول الأعضاء. وقيّض لهذه الامتيازات التي استأثرت بها الدول الكبرى أن تُكرس في الميثاق، وبالتالي، تهيمن على المؤسّسة الدولية. وبذلك شكّل مجلس الأمن الذراع المؤسّسية الرئيسية للمنظمة الدولية، وعهد إليه بصفة خاصة بضمان الأمن والسلم في العالم. وكان هو الهيئة الوحيدة التي لها سلطة اتخاذ قرارات تلزم كل الأعضاء، وتجيز اتخاذ التدابير لتنفيذ هذه القرارات. لذلك، أي قرار يصدر عنها هو تعبير عن رغبة أو اتجاه سياسي للدول الكبرى، وهذا ما أوجد ازدواجية معايير نتيجة للاعتبارات السياسية، وليس نتيجة لإعمال المبادئ.

وتقرّر في سان فرانسيسكو أن يكون للأعضاء الدائمين في مجلس الأمن حقّ الفيتو، من دون الأعضاء غير الدائمين. وقد تعرّض هذا التمييز لمعارضة قوية، سواء من ناحية المبدأ، أو من الدول الأخرى في الأمم المتحدة، لكن الدول الكبرى المنتصرة فرضت شروطها، وقيّدت الرؤية التي تتطلع لنظام عالمي جديد يسترشد بمبادئ الميثاق، بالافتراض الضيق القائل إن المنتصرين وحدهم يستطيعون تحقيق هذه المبادئ.

عمل الاختلال في بنية المنظمة الدولية على إنتاج معايير مزدوجة، تتفاوت بين حالةٍ وأخرى

طبعاً، ما كان للدول الكبرى أن تُصادق على الميثاق من دون حقّ النقض الخاص بها، وقد عمل هذا الحقّ خلال السنوات اللاحقة على ضبط الأوضاع الدولية بآلية المنع عبر استخدام هذا الحق. وهو ما اعتُبر صمّام الأمان في منظومة الأمم المتحدّة، من حيث كونه يجعل من المستحيل على الأمم المتحدة أن تمضي إلى الحرب ضد إحدى الدول الكبرى وفق الفصل السابع من الميثاق، مهما بلغت خروق هذا الطرف القانون الدولي. وفّرت هذه الميزة للأعضاء الدائمين القدرة على منع أي عملٍ لا يرغب به أي من الأطراف المشكلة لهذه الإطار الضيق. ما جعل المجلس مؤسّسةً مغلقة لصالح الدول الكبرى تتحكّم في مساراته.

عمل هذا الاختلال في بنية المنظمة الدولية على إنتاج معايير مزدوجة، تتفاوت بين حالةٍ وأخرى. وهكذا، فإن إحدى دعائم حظر استخدام القوة دولياً، والمتمثل في التدخل غير المباشر أو حلّ المنازعات الدولية سلمياً، وهو النظام المفترض أن يكون القاعدة العامة، أو المبدأ العام الذي يحكم مسألة استخدام القوة في العلاقات الدولية، تعترضها صعوباتٌ متعدّدة تفتح المجال نحو عدم سريان النظام المذكور في حالات متعددة. أدّى هذا الوضع، بسبب العوامل التي سبق الإشارة إليها، إلى عدم إمكانية تحقيق ذلك بالنسبة لغيرها من المسائل. معنى ذلك أنه في مواجهة أوضاع متماثلة يتم أعمال حظر استخدام القوة مرة، وإباحتها أخرى، أي ممارسة ازدواجية المعاملة.

استندت المعايير المزدوجة في فترة الحرب الباردة إلى تغطيات قانونية، كانت تنجح، في حالاتٍ كثيرة، في إخفاء ازدواجية المعايير، وفي حالات أخرى، كانت تفشل. ولكن الازدواجية مع انتهاء فترة الحرب الباردة أخذت تظهر بشكل فجّ بهيمنة الولايات المتحدة وغياب القطب الآخر من النظام الدولي. وبذلك، كان المثل الصارخ لازدواجية المعايير، من خلال التعامل مع حالة موحّدة بمعايير مزدوجة، وهي حالة احتلال العراق الكويت، وحالة احتلال إسرائيل الأراضي العربية. ففي الحالة الأولى تم استنفار مجلس الأمن، ومن بعده العالم، لمواجهة ذلك الاحتلال، وفي الثانية تمت رعاية الاحتلال وحمايته في المنظمة الدولية وفي غيرها من المواقع. في الحالتين، كانت إرادة الولايات المتحدة وراء هذه الازدواجية.

D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.