الأفرقة - فوبيا وتداعياتها السياسية على تونس
خانت الفطنة السياسية الرئيس التونسي، قيس سعيّد، المسؤول الأول عن الدبلوماسية التونسية، من أربع سنوات، ومهندس السياسات الخارجية وراسم ملامحها ومجتبي وزرائها وسفرائها وقناصلها، اعتمادا على الصلاحيات العملاقة الممنوحة له من دستوري 2014 و2022، خانته في حماية المصالح الوطنية التونسية والعمل على تطويرها. ولم يقف على ما تخفيه الحظوة التي باتت تلقاها الدول الأفريقية دبلوماسيا، بعد أن أُتيحت له المشاركة في القمّة الأوروبية الأفريقية في بروكسل يومي 17 و18 فبراير/ شباط 2022 ونظيرتها الأميركية في واشنطن 13-15 ديسمبر/ كانون الأول من السنة نفسها. وهو يوشك أن يُضيّع على تونس ما جنته من فوائد متأتّية من احتضانها، السنة المنقضية، القمة اليابانية الأفريقية (تيكاد 8)، وقمّة جربة الفرانكفونية ذات المشاركة الأفريقية الغالبة. .. ففي وقت تخطب فيه القوى العظمى في قارّات أوروبا وأميركا وآسيا ودّ الأفارقة جنوب الصحراء، معتبرة أن مستقبل العالم الاقتصادي في أفريقيا، وتهرول هذه القوى وراءهم في حركةٍ تسابق الزمن، تجلّت قمما ومؤتمرات ومعاهدات ثنائية وجماعية ورصد مبالغ خيالية، على غرار مبلغ 30 مليار دولار المرصود من اليابان، و55 مليار دولار المخصّصة من الولايات المتحدة، لترميم العلاقات التقليدية والفوز بروابط اقتصادية وعقد الصفقات وبناء التحالفات والحفاظ على المصالح ومراكز النفوذ الاقتصادية والمالية والعسكرية في القارّة السمراء، خشية من تمدّد الدبّ الروسي والتنين الصيني وتبدّلات الجغرافيا الاقتصادية والسياسية الأفريقية، في هذا الوقت، يرتكب الرئيس سعيّد خطأ دبلوماسيا واستراتيجيا جسيما، يكاد يضع في مهب الريح مصالح تونس الأفريقية، ورصيدها الأفريقي التاريخي، ووجود أفراد جاليتها في بلدان كثيرة جنوب الصحراء الكبرى، للاستثمار وكسب الأسواق لشركاتهم ومنتجاتهم أو الدراسة.
صرّح الرئيس سعيّد في أثناء اجتماع مجلس الأمن القومي يوم 21 فبراير/ شباط 2023 الذي "خُصّص للإجراءات العاجلة التي يجب اتخاذها لمعالجة ظاهرة توافد أعداد كبيرة من المهاجرين غير النظاميين من أفريقيا جنوب الصحراء إلى تونس"، حسب بلاغ (بيان) رئاسة الجمهورية التونسية، المنشور في صفحتها على "فيسبوك"، صرّح "إن هذا الوضع غير طبيعي، وإن هناك ترتيبا إجراميا تمّ إعداده منذ مطلع القرن لتغيير التركيبة الديمغرافية لتونس، وإن هناك جهات تلقت أموالا طائلة بعد سنة 2011 من أجل توطين المهاجرين غير النظاميين من أفريقيا جنوب الصحراء في تونس، وإن هذه الموجات المتعاقبة من الهجرة غير النظامية الهدف غير المعلن منها هو اعتبار تونس دولة أفريقية فقط ولا انتماء لها للأمتين العربية والإسلامية". وجاء في البلاغ أيضا أن "رئيس الجمهورية شدّد على ضرورة وضع حدّ بسرعة لهذه الظاهرة خاصة وأن جحافل المهاجرين غير النظاميين من أفريقيا جنوب الصحراء ما زالت مستمرّة، مع ما تؤدّي إليه من عنف وجرائم وممارسات غير مقبولة، فضلا عن أنّها مجرّمة قانونا"، داعيا "إلى العمل على كلّ الأصعدة الدبلوماسية والأمنية والعسكرية والتطبيق الصارم للقانون المتعلّق بوضعية الأجانب بتونس، ولاجتياز الحدود خلسة".
نظرية المؤامرة التي اتسمت بها مواقف سعيّد لم تفلح هذه المرّة، وأثارت استياء حكومات أفريقية وغير أفريقية
جاءت التفاعلات الداخلية من موقف سعيّد في شكل انفعالاتٍ حادّة من بعض المواطنين التونسيين تجاه الأفارقة المقيمين بتونس بطريقةٍ غير نظامية، وشملت أيضا أبناء الجاليات الأفريقية المتمتّعين بإقامة قانونية للعمل أو الدراسة، وبلغت ممارسة العنف في الشارع حدّ الاعتداء المباشر بالضرب والتعنيف والطرد من العمل، ودفع بعض الأفارقة إلى إخلاء مساكن يستأجرونها، ومنع آخرين من استعمال وسائل النقل العمومي. وقد تغذّت هذه السلوكيات الفردية والجماعية من تصريحات جهات إدارية وأمنية ودبلوماسية، وخصوصا ما ذكره الناطق الرسمي باسم الحرس الوطني في وسائل الإعلام المحلية "أن هناك عقوبات في انتظار التونسيين الذين يقومون بإيواء أجانب أو تشغيلهم بطريقة غير قانونية". وما صرّح به سفير تونس لدى دولة الكونغو في إحدى القنوات التلفزيونية الكونغولية يوم 24 فبراير/ شباط 2023، قائلا "لدينا مشكلة مع عدد كبير من المهاجرين الذين يصلون إلى تونس وينشرون الرعب في البلاد. على سبيل المثال، في مدينة ساحلية مثل صفاقس، نجد أشخاصا (المقصود المهاجرون الأفارقة) يحملون المناجل وسط المدينة، ويقومون بقتل واغتصاب الناس، ومؤخرا قاموا باغتصاب سيدة أمام أطفالها قبل قتلها". وأضاف "كيف تتوقعون أن يكون رد فعل الحكومة التونسية على هذه الحوادث، وخاصة في ظل التدفق الهائل للمهاجرين غير الشرعيين".
ولكن نظرية المؤامرة التي اتسمت بها مواقف الرئيس سعيّد في مواجهة خصومه السياسيين داخليا، وحديثه المتواتر عن الـ "هم" الذين لا يذكر أسماءهم ألبتة ولا يحدد هوياتهم، من دون إلزامه من أحد بتسمية الأشياء بمسمّياتها، لم تفلح هذه المرّة، وأثارت استياء حكومات أفريقية وغير أفريقية ومنظمات دولية وإقليمية كثيرة، واصفة تصريحاته بالعنصرية. ويعدّ البيان الذي أصدره رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي، يوم 24 فبراير/ شباط المنقضي، دليلا قاطعا على عمق الاستياء الأفريقي من موقف الرئيس قيّس سعيّد، فقد تضمّن ذلك البيان الحامل عنوان "رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي يدين بشدة التصريحات العنصرية حول المواطنين الأفارقة بتونس" اتهاما صريحا للسلطات التونسية بإثارة النعرة العنصرية. جاء في نص البيان "ﯾﻨﺪّد اﻟﺴﯿﺪ ﻣﻮﺳﻲ ﻓﻜﻲ ﻣﺤﻤﺪ (رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي) ﺑﺎﻟﺘﺼﺮﯾﺤﺎت ذات اﻟﻄﺎﺑﻊ اﻟﻌﻨﺼﺮي اﻟﺼﺎدﻣﺔ اﻟﺘﻲ ﺻﺪرت ﻋﻦ اﻟﺴﻠﻄﺎت اﻟﺘﻮﻧﺴﯿﺔ ﺑﺸأن اﻟﻤﻮاطﻨﯿﻦ الأﻓﺎرﻗﺔ واﻟﻤﻨﺎﻓﯿﺔ ﻧﺼﺎً وروﺣﺎً للمبادئ اﻟﻤؤﺳﺴﺔ ﻟﻤﻨﻈﻤﺘﻨﺎ"، مع الإشارة كذلك إلى أنه "ﺑﺎﺳﻢ رﺋﯿﺲ اﻟﻤﻔﻮﺿﯿﺔ اﺳﺘﻘﺒﻠﺖ اﻟﺴﯿﺪة اﻟﺪﻛﺘﻮرة ﻣﻮﻧﯿﻚ أﻧﺰاﻧﺰ أﺑﺎﺟﺎﻧﺎﻧﻮا واﻟﺴﯿﺪة ﻣﯿﻨﺎﺗﺎ ﺳﺎﺳﻮﻣﺎ ﻣﻔﻮﺿﺔ اﻟﺼﺤﺔ واﻟﺸﺆون الإﻧﺴﺎﻧﯿﺔ واﻟﺘﻨﻤﯿﺔ اﻻﺟﺘﻤﺎﻋﯿﺔ ﺻﺎﺣﺐ اﻟﺴﻌﺎدة اﻟﻤﻤﺜﻞ اﻟﺪاﺋﻢ ﻟﺘﻮﻧﺲ ﻟﺪى اﻻﺗﺤﺎد اأﻓﺮﯾﻘﻲ ﻟﺘﻌﺮﺑﺎ ﻟﮫ ﻋﻦ ﺑﺎﻟﻎ اﻧﺸﻐﺎل اﻻﺗﺤﺎد اأﻓﺮﯾﻘﻲ ﺑﺨﺼﻮص اﻟﺸﻜﻞ واﻟﻤﺤﺘﻮى ﻟﻠﺘﺼﺮﯾﺢ اﻟﻤﺴﺘﮭﺪف ﻟﻠﻤﻮاطﻨﯿﻦ الأﻓﺎرﻗﺔ ﺑﺼﺮف اﻟﻨﻈﺮ ﻋﻦ أﺣﻮاﻟﮭﻢ اﻟﺸﺮﻋﯿﺔ ﻓﻲ اﻟﺒﻠﺪ".
عدد الأجانب المقيمين في تونس بصفة قانونية وغير قانونية سنة 2021 كان في حدود 58990
لم تفلح التفسيرات التي قدّمتها وزارة الخارجية التونسية في البلاغ متعدّد اللغات (العربية والفرنسية والإنكليزية) الذي نشرته في صفحتها على "فيسبوك" يوم 25 فبراير/ شباط 2023، أن بيان الاتحاد الأفريقي "قد بُني على فهم مغلوط لمواقف السلطات التونسية"، وأنها "تأسف للخلط غير المبرّر وغير المفهوم في هذا البيان بين المهاجرين الأفارقة القانونيين الذين يعيشون بسلام وتحت حماية الدولة التونسية وبين الجماعات غير القانونية التي تتاجر بالبشر". ولم تغيّر صورة وزير الخارجية التونسي، نبيل عمّار، مع السفراء الأفارقة التي نشرتها الوزارة، ولقاءاته الإعلامية المكثّفة بوكالات الأنباء والتلفزيونات الغربية، من الأثر البالغ السلبية الذي تركته تصريحات الرئيس سعيّد على العلاقات التونسية الأفريقية، ولدى المنظمات الحقوقية الدولية والإقليمية، بما في ذلك حديثه إلى وزير الداخلية، توفيق شرف الدين، يوم 24 فبراير/ شباط 2023 الذي حاول فيه التخفيف من وطأة ما ذكره سابقا، فقد كانت الفيديوهات المنتشرة على صفحات "السوشيال ميديا" الأفريقية والغربية، التي توثّق اعتداءاتٍ تعرّض لها أفارقة في تونس، أبلغ تعبيرا من كل البلاغات والخطابات والتفسيرات.
تبيّن أن الرئيس سعيّد، وهو يتكلّم في أثناء انعقاد مجلس الأمن القومي عن وجود الأفارقة في تونس، المقيمين بصفة شرعية أو غير شرعية، لم يبن مواقفه وأحكامه وخشيته من تغيير الواقع الديمغرافي التونسي وهوية تونس العربية الإسلامية إلى هوية أفريقية صرفة، والقرارات التي لا بدّ من اتخاذها، استنادا إلى معطياتٍ علميةٍ وديمغرافية دقيقة، من واجب الدوائر الحكومية وضعها على مكتب رئيس الجمهورية. تفيد دراسة "المسح الوطني للهجرة الدولية" (منشورات المرصد الوطني للهجرة، والمعهد الوطني للإحصاء بتونس، سنة 2021 في 89 صفحة) بأن عدد الأجانب المقيمين في تونس بصفة قانونية وغير قانونية سنة 2021 كان في حدود 58990، يتوزّعون كما يلي: 21818 مغاربة، 21466 أفارقة جنوب الصحراء، 10927 أوروبيون، 3861 ينحدرون من الشرق الأوسط، و918 من دول أخرى، ما يعني أن أفارقة جنوب الصحراء يشكلون 36.4% فقط من مجموع الأجانب المقيمين بتونس، وتقلّ نسبتهم عن نسبة المغاربة بـ 37%، إلا أن وجودهم الذي بات ملاحظا من عامة الناس يعود إلى لون بشرتهم وتجمّعاتهم بمدن وأحياء دون غيرها، وهذه الأرقام تم اعتمادها أيضا من موقع "انكفاضة" سنة 2022 في دراسة استقصائية بعنوان "الهجرة التونسية في أرقام". قد يكون العدد شهد تناميا لافتا سنة 2022، لكنه لن يتجاوز بضعة آلاف إضافيين، وهؤلاء لن يشكّلوا، في أي حال، خطرا على التركيبة الديمغرافية التونسية، ناهيك أن كل أفارقة جنوب الصحراء والمغاربة وأصحاب الجنسيات الشرق الأوسطية، الذين يدخلون تونس عبر الحدود الجزائرية، أو يلقي بهم البحر المتوسّط قادمين من ليبيا عوضا عن الوصول إلى الشواطئ الإيطالية، أو يسافرون إلى تونس عن طريق الجو من دون الحاجة إلى تأشيرة دخول، يتعاملون مع تونس منطقة عبور لا موطن استقرار، وهذا مثبتٌ لدى السلطات الإيطالية التي استقبلت خلال السنوات الثلاث الأخيرة وحدها 41846 مهاجرا تونسيا غير نظامي، ما يفوق عدد كل الأفارقة المقيمين في تونس، يتجه أغلبهم إلى فرنسا ويتم تمكينهم من الإقامة والحق في العمل والحماية الاجتماعية والصحية والتمتع بالوثائق القانونية والإدماج الكامل خلال سنوات قليلة، بالرغم مما قد يسقط فيه بعضهم من انحراف وارتكاب جرائم يخضع مرتكبوها لعقوبات فردية، حتى بلغ عدد التونسيين المقيمين في الخارج، بطريقة قانونية أو غير قانونية، حسب آخر الإحصائيات التي أجراها في سنة 2022 ديوان التونسيين في الخارج 1.816.833 منهم 84.8% يقيمون في دول أوروبية.
تداعى المجتمع المدني، تعاطفا مع أفارقة جنوب الصحراء المقيمين في تونس، رافضا كل أشكال التنمّر والتمييز والاعتداء التي طاولتهم
وعلى عكس الموقف الرسمي التونسي المستبطن الأفرقة - فوبيا، والدليل استعمال الرئيس مصطلح الجحافل، تداعى المجتمع المدني، تعاطفا مع أفارقة جنوب الصحراء المقيمين في تونس، رافضا كل أشكال التنمّر والتمييز والاعتداء التي طاولتهم، مشكّلا ما سمّاها "جبهة مناهضة الفاشية" من مائة منظمة وجمعية وشخصيات عامة. وقد أصدرت هذه الجبهة بيانا يوم 23 فبراير/ شباط 2023 بعنوان "تونس لن تكون فاشية كما يريدها قيس سعيّد"، طالبت فيه "بالسحب الفوري للبلاغ - الفضيحة (بلاغ رئاسة الجمهورية) ووقف كلّ التتبعات والملاحقات التي طاولت وما زالت المهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء على أساس الهوية، وإعلان المساندة والتضامن المطلق واللامشروط مع كلّ ضحايا هذه الهجمة، والمطالبة بوضع معايير موضوعية لتسوية الوضعيات القانونية لجميع الأشخاص الراغبين في الإقامة في تونس". كما نظّمت الجبهة مظاهرة شعبية يوم 25 فبراير/ شباط 2023 في تونس العاصمة احتجاجا على موقف رئيس الجمهورية، وما نتج عنه من استباحة للأفارقة المعتدى عليهم ودعما لهم في محنتهم.
وفي السياق نفسه، كان المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية نبّه قبل أيام قليلة من تصريحات رئيس الجمهورية (16 فبراير/ شباط 2023) في بيان له بعنوان "حملات كراهية وعنصرية وإيقافات تعسّفية ممنهجة ضد المهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء في خرق صارخ لحقوقهم" جاء فيه "تفند الوقائع في تونس اليوم ما ذهب إليه الرئيس قيس سعيّد (قوله في بروكسل يوم 17 فبراير/ شباط 2022 أفريقيا للأفارقة)، حيث تشنّ المؤسّسة الأمنية حملة تحت عنوان تدعيم النسيج الأمني والحد من ظاهرة الإقامة غير الشرعية بالبلاد التونسية تستهدف المهاجرين من جنوب الصحراء في تونس. ويتكدس في الأيام الأخيرة أكثر من ثلاثمائة مهاجر ومهاجرة في مراكز الإيقاف، بمن فيهم من النساء والأطفال، وكل من قدم للتضامن مع الموقوفين الأفارقة، ليتم إصدار بطاقات إيداع على اللون والهوية دون احترام للإجراءات".
أظهرت أقوال سعيّد صعوبة تقمّص الدور الدبلوماسي واستخدام لغته ورموزه وعلاماته المعبّرة، وهشاشة العلاقات بين المجتمعات والدول
لقد أنتجت تصريحات الرئيس قيس سعيّد وسياساته تجاه المهاجرين الأفارقة غير النظاميين، نوعا من الأفرقة - فوبيا في بلد منح اسمه (أفريقية) للقارّة السمراء برمّتها، وتنكّرت، بوعي من الرئيس أو بدون وعي منه، للعلاقات التونسية - الأفريقية الضاربة في القدم، وما أثمرت من مواقف وروابط ثنائية وجماعية، كانت دائما مثالا للعقلانية الدبلوماسية، بدأت أحلام قادة وطموحات شعوب لتحقيق مصالح مشتركة ملموسة، بعد مقاومة الاستعمار في أفريقيا وتصفيته والتخلّص من مخلّفاته، وانتهت مؤسّسات عملاقة، كانت للحكومات التونسية المتعاقبة أدوار متفاوتة في تأسيسها وتطويرها والمحافظة عليها، كما هو مدوّن في الكتاب الذي نشره المعهد العربي لحقوق الإنسان سنة 2017 (422 صفحة) "البعد الأفريقي في السياسة الخارجية التونسية 1956-1986"، ومن ذلك منظمة الوحدة الأفريقية (1963) التي استحالت اتحادا أفريقيا (2001) والبنك الأفريقي للتنمية (1964) والبرلمان الأفريقي (2004)، والمحكمة الأفريقية لحقوق الإنسان والشعوب (1998).
أظهرت أقوال سعيّد أيضا صعوبة تقمّص الدور الدبلوماسي واستخدام لغته ورموزه وعلاماته المعبّرة، وهشاشة العلاقات بين المجتمعات والدول، فزلّات الألسن والتصريحات غير المدروسة وغير المدعومة بالمعلومات الدقيقة للرؤساء والقادة قد تضرّ مصالح الدول وتنهي علاقات ثنائية وغير ثنائية متأصّلة، وربما تقود إلى قطع العلاقات وتجميد الاتصالات وخسارة الأسواق واندلاع المعارك والحروب والنزاعات، فكم من العلاقات انهارت بسبب كلمة أو زلّة لسان أو عثرة اتصالية، دفعت الشعوب ثمنها من قوتها وثرواتها ووحدة أوطانها وسيادتها وكرامتها ودماء أبنائها ووجودها برمّته؟