الأسوأ من زلزال ودانيال
لم نكد نفيق من فاجعة زلزال المغرب، حتى جاءنا الإعصار دانيال بما هو أشدّ، لنفقد، في غضون ساعات فقط، نحو عشرة آلاف من الأشقاء، قضوا في الكارثتين، فضلًا عن عشرات آلاف من الجرحى والمنكوبين والمفقودين. عند هذه اللحظة فقط، عادت لنا روح الأخوّة والانتماء المشترك، وأدركنا أنّ الطعنة حين تستقرّ في صدر المغرب يكون الألم والنزيف في جسد المشرق بالفداحة ذاتها... هنا ينهض معنى الشقيق ومعنى الهوية الواحدة والمصير المشترك والهم الواحد من تحت ركام السياسة، وتفرّ خفافيش العنصرية والشعبوية وديماغوجية الذين يتغذّون على إثارة النعرات بين شعوب الوطن الواحد.
في ذلك ما يثلج الصدر، من أنّ فاجعة زلزال مراكش والحوز دفَنت (ولو بشكل مؤقت) تلك المعارك الدونكيشوتية المصطنعة على مواقع التواصل الاجتماعي بين أشقاء في الجزائر والرباط، وبدّدت غيوم الشوفينية والتلاسُن والتنابز، وأظهرت أنّ ثمّة شعبًا عربيًا واحدًا موّزعًا على 22 دولة، وأسكتت كلّ خطاب التصعيد والتحريض والكراهية في منابر الإعلام الرسمي وغير الرسمي.
الأمر نفسه تجده في الشقيقة ليبيا الممزّقة أصلًا بفعل عواصف السياسة الحمقاء وصراعات الأخوّة داخل البلد الواحد، وهي الصراعات التي استنزفت من دماء البشر ومقدرات الوطن أكثر مما التهمه الإعصار المدمّر الذي أسفر حتى هذه اللحظة عن مصرع نحو ستة آلاف ومحو مناطق كاملة في مدينة درنة من الوجود، بالإضافة إلى آلاف المفقودين وعشرات آلاف من المشرّدين، مخلّفًا حالة حزنٍ عام تلفّ الشعوب العربية كافًة، وتضعها أمام سؤال وجودي لازم: هل كان لابدّ من كارثةٍ بهذا الحجم المروّع حتى يتذكّر الناس أنهم يهدرون إنسانيتهم في صراعات ونزاعات يفرضها عليهم أوغاد أكثر خسّة وبطشًا من دانيال والزلزال.
لا يخلو الأمر، بطبيعة الحال، ممن يستثمرون الكوارث سياسيًا، للتغطية على جرائم ضدّ الإنسانية أكثر فظاعةً مما فعله الإعصار، على أنّ ذلك لا ينفي أنّ ثمّة هزّات أخلاقية وقيمية تترك أثرها على الشعوب، فتستخرج من أعماقها جوهرها الإنساني السليم، وتُنعش قيم التراحم والتضامن والأخوة الإنسانية والحضارية. لكن ذلك، وللأسف الشديد، يبقى مؤقتًا، إذ سرعان ما يأتي النكوص على تلك الحالة الإنسانية السويّة، وما ذلك الزلزال الذي ضرب تركيا والشمال السوري في شهر فبراير/ شباط من هذا العام (2023) ببعيد، حيث توزّع الدمار والموت بالتساوي، فتذكّر الناس أنّهم سواء، لا مكان بينهم لعنصرية اللون أو العرق أو اللغة، فتوقفت مظاهر الكراهية المجتمعية إلى حين، ثم مع الوقت عدنا نقرأ ونرى مشاهد الاستهداف العنصري للسوريين النازحين إلى المدن التركية فرارًا من طوفان الاستبداد الإجرامي الواقع عليهم من نظام سياسي ممارساتُه أكثر كارثية من أفعال الطبيعة.
مع كلّ كارثة طبيعية، منذ زلزال لشبونة الذي دمّرها تمامًا مخلّفًا نحو مائة ألف قتيل في القرن الثامن عشر، والذي طال دماره مدينة الدار البيضاء المغربية، فأوقع عشرة آلاف قتيل، مرورًا بسلسلة من الكوارث، أشهرها تسونامي دول شرق آسيا 2006، وليس انتهاءً بزلزال المغرب وإعصار درنة، يأخذ العالم وقتًا مستقطعًا من ممارساته وخطاباته العنصرية الكريهة، ويبدو لوهلة أنّ الإنسانية تستعيد نقاءَها، ثم سرعان ما تستأنف حالة الصراع الحضاري والثقافي، ويسترجع تصنيف البشر على أسس عنصرية استعلائية، فهل صرنا بحاجة إلى كارثة يومية حتى نتذكّر أهمية أن نكون بشرًا بالمعنى الحقيقي للكلمة؟