الأسد و"ممرّ ديفيد"
يقتطع نيكولاس سبيكمان حيّزاً لا بأس به من انتباهنا، حين لا يُمهلنا وقتاً كثيراً لتفحّص ما تحدّث عنه حول مبالغة ماكيندر في تعظيم شأن المركز لدى قراءة الدول من مدخل "الجغرافيا السياسية". سنقبل تحليل سبيكمان سريعاً عن الأهمية الاستثنائية للإطار على حساب تقليص أهمية المركز، فمن يُسيطر على الحوافّ أو الإطار سيسهل عليه ابتلاع المركز والسيطرة عليه.
تعود تلك المصادقة على كلامٍ في الجغرافيا السياسية إلى ما قبل نهاية الحرب العالمية الثانية، تمتلك من الحيويّة والتجدّد ما يجعلها قادرة على استئناف تأويل الفعل السياسي للقوى الدولية المهيمنة حالياً بما يستجد عليها من متغيّرات، ولعل الحديث عن "ممرّ ديفيد" وفق هذه المقاربة يستمدّ هذه الأيام نصيباً وافراً من التداول، ويجد في تحليل سبيكمان لأهمية الإطار ذريعة تجعلنا لا نشكّك كثيراً في إمكانية انبثاقه من التجريب النظري إلى التجريد الواقعي، وهو على أي حال شريطٌ حدودي بعرض 50 كيلو متراً يبدأ من القنيطرة في جنوب غرب سورية، مروراً بدرعا، فالسويداء، فقاعدة التنف العسكرية، وصولاً إلى الحسكة في أقصى الشمال الشرقي من البلاد، وفي هذا النطاق الجغرافي ثرواتٌ لا يُستهان بها من النفط والغاز والسيليكون.
تلك الجغرافيا التي يفضحُ الممرّ المزعوم اقتطاعها من سورية، تصيرُ ذخيرة ملائمة لإطلاقها بوجه ثبات المعطيات السياسية الراهنة في المشهد السوري، وكأنه ثبات يراوح حول درجة الصفر المئوية، قريباً من الانجماد وخصائصه، لا يزيد عن ذلك ولا ينقص، فالمرابطون على تخوم هذه الفرضية في "الجيوبولتيك" لا يناورون كثيراً بفحص فرضية الممر، بل ويجدون في مأساة غزّة ما يعززها، ذلك أنّ الحرب المسعورة على القطاع الفلسطيني المحاصر صادرت الاهتمام السياسي إلى هناك، لا من المنطقة العربية والشرق الأوسط فحسب، وإنما من العالم برمّته، حتى إنّ أخبار المعارك الدائرة على الجبهة الروسية الأوكرانية، تراجعت في نسبة ظهورها على وسائل الإعلام، وفي نسبة الاهتمام بمراقبتها أو متابعتها.
قد تتدفّق إسرائيل خلال حربها على غزّة، أو بعد انتهائها، من الثقوب الممكنة في القنيطرة السورية، أو الجنوب اللبناني إلى سائر المنطقة
وأيضاً قد تتدفق إسرائيل خلال حربها على غزّة، أو بعد انتهائها، من الثقوب الممكنة في القنيطرة السورية، أو الجنوب اللبناني إلى سائر المنطقة، حينها ستبدو وكأنها تمتحن إمكانية صياغة ممرّ اسمه على اسم اتفاقية سلامٍ لا يحبها كلّ العرب وكل المصريين على أي حال. ثم إنّ ترويج ذاك القوس البري الملتفّ (ممرّ ديفيد) والمراد اقتطاعه من جنوب سورية وشرقها، سيمرُّ بكل تأكيد من دهليز انتهاء فترة صلاحية بشّار الأسد، بعدما كبّلته أخيراً مذكرة التوقيف الدولية بحقه، والصادرة عن القضاء الفرنسي، عقب عودته من المشاركة بأعمال القمّة العربية الإسلامية الاستثنائية التي انعقدت في الرياض، أخيراً، وهو بذلك صار منفياً في الداخل، وبالتحديد ضمن سورية المفيدة بالنسبة إليه وللإيرانيين والروس، وبالطبع، الجنوب السوري ليس من ضمنها، لذلك سيظل هناك وحيداً ومنبوذاً ومكروهاً من الجميع، يتحرّك مراوحاً بين دمشق واللاذقية، مروراً بحمص، إذ لا مسار لحركته بعد الآن سوى هذا المسار، لذلك وجدناه عاجزاً عن حضور قمة التغيّر المناخي التي انعقدت في دبي آخر يوم من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني، بالرغم من توجيه دعوة رسمية إليه بهذا الشأن، واكتفى مُتزّعم النظام السوري بإرسال رئيس وزرائه حسين عرنوس إلى تلك القمّة.
لكن هل يمكن للولايات المتحدة أن تستورد "ممر ديفيد" هذا، باعتباره بضاعة ذات قيمة استراتيجية، وجيوسياسية نفيسة؟ وكم ستبلغ كلفة استيراده من الفرضية إلى الوجود؟
أخيراً، اجتمع ضباطٌ أميركيون، مع قياداتٍ من قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وممثلين عن العشائر العربية في قاعدة العمر العسكرية التابعة للولايات المتحدة، والتي تحمل اسم حقل النفط المجاور لها في محافظة الحسكة السورية، وما تسرّب من ذاك الاجتماع إلى وسائل الإعلام كان جلّهُ يدور بشأن إمكانية تحقيق انسجامٍ وتآلفٍ وتنسيقٍ عسكري بين تلك العشائر وقوات "قسد" وجيش سورية الحرّة في قاعدة التنف العسكرية، بالإضافة إلى التنسيق مع الجنوب السوري، بطبيعة الحال، وإنْ صدقت صحّة هذه التسريبات، فالأمر يتّجه بالفعل إلى استدراج "ممرّ ديفيد" من كونه مجرّد استفاضة نظرية تحاكي نموذج الإطار لدى سبيكمان إلى تجسيد واقعي بنكهة تستمزج مكوّنات أثنية سورية متعدّدة، كالأكراد والعشائر والدروز، والدروزُ يخضعون لسلطة فصائل عديدة مسلحة ذات ولاءات مختلفة، ولعل آخرها ظهوراً كان "قوات التدخل السريع" التي يُقال إنها تأتمر من قاعدة التنف العسكرية مباشرة، ولعل انتفاضتهم ضد النظام السوري، بصيرورتها المتواصلة منذ ثلاثة أشهرٍ ونصف، والتي لم تنجز أي مكتسباتٍ واقعية براغماتية على الأرض، لكنها لا تتمالك نفسها من أن تكون مجرّد صوتٍ يزعج بشار الأسد، ويذكّره بأنه من باع إطار سورية الجنوبي الشرقي، لأجل أن يثبت للدول التي تواطأت على بقائه حتى الآن بأنه خيرُ خادمٍ لها.
هل يمكن للولايات المتحدة أن تستورد "ممر ديفيد"، باعتباره بضاعة ذات قيمة استراتيجية وجيوسياسية نفيسة؟
وإنْ عدنا قليلاً إلى الوراء، إلى الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني) حين أطلَّ علينا يحيى الأسد، وهو ابن عمّ بشّار، متزعّماً النظام السوري، عقيدٌ خَدَمَ في اللواء 105، واستقال من العمل العسكري عام 2011، أطلَّ هكذا بلا مناسبة منطقية، وفي تسجيل مصوّر ليخبرنا كيف تآمرت زوجة حافظ الأسد وابنته الوحيدة بشرى مع زوجها المتوفّى آصف شوكت لكي يقتلوا حافظ الأسد بالتلاعب بأدويته. لكن حديثَ ذاك الضابط لم يأتِ ليفتح تحقيقاً في قضية وصفها بالجنائية، وإنما جاء لينبّه بشّار الأسد من مصيرٍ درامي يُنهي حياته، وقد يأتيه على عجالة من أيدي أقرب الناس إليه، أي استثارة العناصر السردية المُتخيّلة لتآمر أسرة في مكانها، وإمكانية تكرار هذه الفعلة في نسقٍ درامي مشابه. فهل يتكهن ذاك الضابط المنشقُّ بمصيرٍ مرتقب لبشار الأسد؟ على شاكلة سرديّته المتوارية عن المنطق، والتي تخصّ موت حافظ الأسد مقتولاً من أقرب الناس إليه، من دون تفنيد دوافع ذاك القتل، أو مجرّد الإنارة عليها من بعيد.
من الجائز هنا أن ينتهي مصير بشّار الأسد بالتصفية، أن نسمع بموته مقتولاً ذات صباحٍ قريب، وهذا واردٌ بمقدار الرغبة الدولية بإعادة تصفية سورية ضمن موسم تنزيلاتٍ طويل، ينتهي بفيدرالياتٍ لا تطيقُ المركزَ المتسلّط، مع خياطة معبرٍ طويل على إطار الثوب من جهته الجنوبية والشرقية، اسمُه "ممر ديفيد" قطعة قماشٍ فاخرة، ومستوردة سيجري ترقيع الثوب المهترئ بها، وستكون ملائمة أيضاً لكي يستعيرها حاكم دمشق والساحل السوري ليداري بها عورة حرف السين في نطقه حين يلفظه حرف ثاء، وحينها أيضاً قد يلوم غزّة الثائرة، ويوبّخها لأن امتداد الحرب منها إلى جوارها الميّت أصلاً أفقدهُ ما تبقّى من عرشه الزائف.