الأردن ونتنياهو والبديل الإيراني
ليس عند الأردن فائض من الوقت للتأمل في التحديات الماثلة والمستجدّة أمامه، وأبرزها اليوم عودة نتنياهو إلى رئاسة الحكومة الإسرائيلية، حاملاً لواء المضي بالاستيطان في القدس، وهو أمر عبّرت عنه تحذيرات الملك عبد الثاني، في مقابلة أذيعت الأربعاء الماضي مع شبكة سي إن إن، شدّد فيها على أنّ الأردن "مستعدٌّ للمواجهة"، إذا ما أقدمت الحكومة الإسرائيلية الجديدة على تغيير الوضع القائم في مدينة القدس المحتلة، وانتهاك سلطة إدارة أوقاف القدس وشؤون المسجد الأقصى وصلاحياتها. ولم يقف التحذير الأردني من التطرّف اليميني الإسرائيلي عند مسألة القدس وحدها، بل أشار إلى أن أي تغيير في وضعية القدس يمكن أن يقود إلى اندلاع انتفاضة ثالثة، معتبراً أنها "ستؤدّي إلى انهيار كامل للقانون والنظام، الأمر الذي لن يستفيد منه الإسرائيليون والفلسطينيون" على حد سواء.
لعل هذا التحذير، السابق على تصريحات الرئيس الأميركي، جو بايدن، تعليقاً على نيل حكومة نتنياهو ثقتها أمام الكنيست، وجد صداه لدى الإدارة الأميركية التي أكدت ضرورة السعي نحو السلام العادل ودعم حل الدولتين. والأهم أن الولايات المتحدة، بحسب بايدن، "تعارض السياسات التي تهدّد إمكانية تحقيق هذا المبدأ".
وضع خطاب الحكومة الإسرائيلية الملف النووي الإسرائيلي على قائمة الأولويات
وعلى الرغم من أن تصريحات العاهل الأردني أكّدت أن "لدى الشعب الإسرائيلي الحق في اختيار من يريد أن يقوده"، وعلى الاستعداد للعمل معه، إلّا أن لدى الأردن مخاوفه، من الدخول بمواجهة جديدة، لا تحتملها المنطقة، ولا الوضع الفلسطيني المتأزّم، ولا طبيعة العلاقة الأردنية مع القدس، وهو ما يشكّل جملة من الخطوط الحمراء التي أشارت لها التحذيرات الأردنية، فللأردن مع القدس علاقة محدّدة، لا يرغب باهتزازها، كما لا يرغب بجعلها ورقة للابتزاز من إسرائيل، وعنوان الوصاية الأردنية على المقدّسات الإسلامية والمسيحية بات أكثر حضوراً في الواجهة، خصوصاً في ظلّ التحدّيات التي تواجه الكنائس المقدسية، إثر السياسات الإسرائيلية "المفروضة على الأرض". والخطير في حكومة نتنياهو الجديدة أن رئيس حزب "عوتمسا يهوديت"، إيتمار بن غفير، سيكون وزيراً للأمن القومي، والذي مُنح صلاحيات موسّعة، بحسب الاتفاق الموقع مع نتنياهو، بما يجعله مسؤولاً عن قوات إنفاذ القانون التابعة لسلطات الاحتلال الإسرائيلي في القدس والمسجد الأقصى.
بالإضافة إلى المسألة الفلسطينية، وضع خطاب الحكومة الإسرائيلية الملف النووي الإسرائيلي على قائمة الأولويات، ما يعني توتراً إضافياً في الإقليم الذي حاولت حكومة نتنياهو تأهيل تصعيده بتحالفاتٍ معها، عبر اتفاقيات ثنائية للتطبيع الذي لا يجد ترحيباً لدى الجمهور العربي.
أعلنت إيران الخميس الماضي استعدادها لتعزيز علاقاتها مع الأردن في جميع المجالات
ليس بعيداً عن هذا التأجيج الإسرائيلي لشيطنة إيران، التي حضرت إلى قمة بغداد الثانية في البحر الميت، أخيراً، ممثلة بوزير خارجيتها، التقطت إيران اللحظة بتصريحاتٍ إيجابية نحو الأردن تشي بنوعٍ من التغيير السريع الذي قد يدفع الأردن (وهو قادر على سحب البساط من يد نتنياهو في موضوع التهديد الإيراني للمنطقة)، والذي قد يسهم الأردن في تقليل منسوبه بإحداث انعطافة استراتيجية نحو إيران، بما يجعله مستفيداً مستقبلاً من دورها في العراق الذي تؤثر إيران بقراراته نحو التعاون الإقليمي مع الأردن، من خلال بوابة الاستثمار فيه، هذا بالإضافة إلى أهمية استقرار بوابة الأمن المنشود أردنياً على الحدود الشمالية مع سورية.
في هذا السياق، أعلنت إيران الخميس الماضي استعدادها لتعزيز علاقاتها مع الأردن في جميع المجالات، لافتة إلى أنّ من الممكن أن تكون طهران بوابة عمّان لدخول أسواق آسيا المركزية والقوقاز. وقد جاء هذا الموقف الإيراني المتقدّم على لسان علي أصغر ناصري، في مقابلة مع وكالة سبوتنيك الروسية الذي قال: "إيران والأردن بلدان مسلمان في منطقة واحدة، ولديهما قواسم مشتركة دينية وثقافية، ويتمتعان بعلاقات تاريخية قديمة". كذلك، بيّن القائم بأعمال السفارة الإيرانية في عمّان أنّ "حجم العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين ليس في مستوى عالٍ، إلا أن علاقاتنا قابلة لمزيد من التطوير والتعزيز". وعطفاً على تصريحات أردنية سابقة عن دور المليشيات الإيرانية على الحدود الشمالية مع سورية، نفى ناصري أي وجود إيراني عسكري في الجنوب السوري، مؤكّداً أيضاً على التعاون الروسي هناك، وللأردن تفاهمات واضحة مع روسيا حيال ذلك.
يبدو أن الأردن متّجه نحو الاستثمار بكل أدواره، وعلاقاته الاستراتيجية
في كل ذلك التحول والتطوّر المتسارع في العلاقات الأردنية الإيرانية، وفي ظرف إقليمي مرشّح للتوتر مع وصول نتنياهو، يبدو أن الأردن متّجه نحو الاستثمار بكل أدواره، وعلاقاته الاستراتيجية، مستفيداً من إرثه في العلاقات الإيرانية التي بدأت عام 1924، وتعرّضت لمحطّات من التعاون والتوتر، وهو مستعدٌّ للتحرّك اليوم وفق مصالحه وبعقلانية وحسابات دقيقة، مع التأكيد على مبدأي الحوار والتعاون. وقد جاءت الدعوة إلى الحوار مع إيران مبكرة في شهر يوليو/ تموز الماضي في تصريحات لوزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، ثمّ تلاها تأكيد على مبدأ الحوار في مقابلة لرئيس الوزراء الأردني، بشر الخصاونة، مع قناة "بي بي سي"، وهو ما تطوّر إلى الوضع الراهن الذي يوصف بانتهاء دور المغازلة للجلوس على طاولة المصالح العليا المشتركة، وطرح البدائل الممكنة عن التصعيد الذي وسم العلاقات بين البلدين منذ عام 2004، وتعاظم منذ فبراير/ شباط 2022 في الحديث عن مهدّدات الأمن الوطني الأردني، بسبب حرب المخدّرات على الحدود الشمالية مع سورية وتغيير قواعد الاشتباك.
ماذا يعني ذلك؟ الجواب يكمن في تعدّد إمكانات الأردن والاستثمار بموقعه وعلاقاته الدولية، وفي إمكانية فتح الأبواب السورية والعراقية لدفع عملية النمو الاقتصادي، وتقليل مخاطر الاحتقان الداخلي، والتي ظهرت، أخيراً، في أزمة إضراب سائقي الشاحنات في مدينة معان جنوب الأردن، فالعراق وسورية كفيلان بأسواقهما ومنافذها الحدودية على آسيا وأوروبا بإنعاش قطاع النقل والصادرات وحركة البيع، بما يسمح للأردن بمغادرة مناطق الحذر والتوتر التي كان يحسب حسابها، والتفرّغ لحل المشكلات الداخلية.