الأردن .. رسالة ملكية إلى المخابرات وسجال الرفيق والشيخ
جاءت حكومة بشر الخصاونة في 12 أكتوبر/ تشرين الأول 2020، وحملت الرقم 120 في تاريخ تشكيل الحكومات الأردنية، منذ تأسيس إمارة شرقي الأردن عام 1921. ومُنذ إعلانها، طاولها النقد والتندّر الشعبي؛ بسبب ضخامة عدد الفريق الوزاري، إذ ضمّت 32 وزيراً، ثمانية منهم من حكومة سلفه، عمر الرزاز. حصلت على ثقة مجلس النواب الأردني التاسع عشر، بـ 88 صوتاً، من أصل 130 نائباً، هم عدد أعضاء المجلس. وجاءت الثقة بعد ماراثون نيابي خطابي بلاغي، استمر أكثر من أسبوع، طالب فيه النواب الحكومة المثقلة موازنتها بالدين والعجز، بمطالب مناطقية وحقوقية كثيرة، يراها النواب واجبة التنفيذ.
لاحقاً للثقة الحكومية، أرسل الملك عبد الله الثاني رسالة إلى مدير المخابرات الأردنية، اللواء أحمد حسني، دعا فيها جهاز المخابرات الأردنية الذي تشكل مع بدايات الدولة دائرة للتحري السياسي ضمن جهاز الأمن العام، ثم صدر قانون مستقل له عام 1964، إلى الاختصاص في العمل والمهنية، والتركيز على ما يسمح به قانون الدائرة التي مثّلت، طوال مائة عام، عنصر أمن واستقرار وحماية للدولة ومؤسسة العرش من أزماتٍ كثيرة مرّ بها الأردن، وعصفت بالمنطقة.
فتحت الرسالة الملكية قريحة كثيرين للتحليل، في سبب التوقيت، والغاية منها. وفهمها بعضهم أنها دعوة المخابرات إلى الانسحاب من المشهد المحلي، أو بالمصطلح العسكري الأردني "خطوة تنظيم". كذلك رأى آخرون أنها جاءت لتأثيراتٍ خارجية، أبرزها وصول الرئيس جو بايدن إلى البيت الأبيض. فيما جاء آخرون على حدوث أخطاء وتزوير في انتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. وهناك من ذهب إلى أبعد من ذلك بمطالب غربية، أو بسبب ملف المعلمين وحلّ نقابتهم.
هناك من يرى أن حكومة بشر الخصاونة باتت مطلقة اليد، في ظل دعوة الملك إلى عدم حدوث تقاطعاتٍ في اختصاص المؤسسات، والعمل بشكل متناغم
ذلك كله، حسب ما يراه رئيس وزراء سابق، غير صحيح، والذي يُقرّر أن فكرة الرسالة كانت مطروحةً، حين أعلن الملك عبد الله الثاني دمج جهاز الأمن العام مع جهاز الدرك، في مؤسسةٍ أمنية واحدة. وهذا لا يعني انعدام الرغبة من الملك بضرورة مأسسة العمل، وليس انسحاب أي جهاز أو تخليه عن اختصاصه ومهامه المعهودة. كذلك يرى المصدر نفسه أن توقيت الرسالة كان مقترحاً قبيل إجراء الانتخابات النيابية، وتمّ تأجيلها إلى حين انتهاء الانتخابات، ثمّ انتهاء معركة حكومة بشر الخصاونة في الثقة مع البرلمان، وإقرار قانوني الموازنة العامة، وهو ما حدث وتمّ.
المهم في الرسالة أنها فهمت بغير مقصدها، كما يبدو، وعوّل عليها كثيرون، كما أوَّلوا فيها وفي مضمونها وفي توقيتها، والذي يُفهم من محتوى الرسالة أنه لم ترد أي إشارة إلى الانسحاب، لكن هناك تشديداً على الاختصاص والمهنية، واعتزازاً ملكياً بالتحديث والتطور الذي طرأ على بنية دائرة المخابرات العامة، حيث يخاطب الملك مديرها: "لقد تحقق قدر كبير من الإنجاز على مسار عملية التجديد والتحديث والتطوير المستمرّة التي كلفتك بها، عندما عهدت إليك بإدارة المخابرات العامة، تجسيداً لحرصنا على أن يظل هذا الجهاز العريق، وصاحب الإنجازات التي نفاخر بها، عنواناً للمهنية والانضباط والكفاءة والشفافية والنزاهة... وهذا يدعونا إلى الاستمرار في عملية التطوير والتحديث هذه، وأن تسير بوتيرة أسرع لكي تظل المخابرات العامة الأردنية في طليعة الأجهزة الاستخبارية قدرة وكفاءةً وتميزاً، كما كانت دائماً".
في مقابل هذا الاعتزاز الملكي بالجهاز الأمني الأكثر ثقة عند الأردنيين من الحكومة والبرلمان، حسب "المؤشّر العربي" الذي يصدره المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات، هناك من يرى أن حكومة بشر الخصاونة باتت مطلقة اليد، في ظل دعوة الملك إلى عدم حدوث تقاطعاتٍ في اختصاص المؤسسات، والعمل بشكل متناغم، وهو ما يعني، ضمناً، أن الحكومة باتت مسؤولةً بشكل مباشر عن كل الملفات الداخلية، أي أنها امتلكت الولاية العامة وتمّ تمكينها، وهو أمر لطالما سعت إليه الحكومات السابقة.
لا يميل الملك إلى رحيل الحكومات استجابة لنقد الجمهور، بقدر ما يمنحها كل فرص التعديل الممكنة دستورياً
لكن في ظل أزمة وبائية كبيرة، وتحدّيات اقتصادية أكبر، وارتفاع غير مسبوق في مؤشرات البطالة والفقر، وتنامي التململ المجتمعي من واقعٍ صعب، مع ازدياد فجوة الثقة الشعبية بالمؤسسات التنفيذية ومؤسسة البرلمان، فإن ترك الحكومة وحدها في الميدان تدير المشهد، بدون حماية أو تدخل أمني، يجعلها عرضةً للرحيل بشكل مبكر، خصوصاً إذا ما أحسّ النواب بأن الحكومة مكشوفة الظهر.
ليس إبقاء حكومة أو رحيلها مهمة للمخابرات الأردنية، بقدر ما كان الجهاز تاريخياً يُعين الحكومات على تفكيك الأزمات، وتخفيف حدّة النقد الموجّه إليها بطرق شتّى، وهذا ما يَطرح أمام حكومة الخصاونة كل الملفات، لتباشر عملها بجدّية ومهنية، خصوصاً وأن رئيس الحكومة والفريق الوزاري أقرب إلى التيار المحافظ، وجلهم من البيروقراطية الأردنية، وفيهم بعض الخبراء. ما يعني أنّ الشكل العام للحكومة يمنحها صفة الاستقرار، وبالبقاء بشكل أكبر، خصوصاً أن الملك عبد الله الثاني بات، في آخر أربع حكومات، يميل إلى إعطاء الفرصة بالبقاء أكثر، ولا يميل إلى رحيل الحكومات استجابة لنقد الجمهور، بقدر ما يمنحها كل فرص التعديل الممكنة دستورياً، والتي هي ضمن صلاحياته، إبقاءً أو تعديلاً. وفي المقابل، ما في جعبة حكومة الخصاونة لمواجهة التحدّيات الداخلية قليل، خصوصاً في ظل تقديمها موازنة وصفها رئيسها بشر الخصاونة، ووزير المالية محمد العسعس، بأنها الأصعب والأضخم في تاريخ الموازنات العامة. وبالتالي، هي موازنة مثقلة بارتفاع نسبة الدين العام وخدمته، وتتسم بقلة ما خصص منها لتنمية المحافظات.
يحيل هذا كله المشهد المحلي الأردني والحكومة إلى مزيدٍ من التعقيد، ولا سبيل أمام الحكومة للبقاء إلا بمحاولة اجتراح الحلول، والعمل على فتح ملفاتٍ ذات شعبية، للبقاء وتجنب الغضب الشعبي، ومن هذه الملفات التعامل مع جائحة كورونا بمهنيةٍ أكثر، والاستمرار بمحاربة الفساد، وإصلاح ملف التعليم العالي الذي بات عقبة أمام الحكومات، واستئناف تقييم رؤساء الجامعات، وفكفكة البطالة المتمركزة في الإناث، وفتح مشاريع اقتصادية كبرى بجلب الاستثمار.
كرر الملك، قبيل أسابيع، الحديث عن ضرورة تعديل قانون الانتخاب، بعد فترة وجيزة على إتمام الانتخابات، وهو أمر أثار أسئلة كثيرة عن السبب
وعند الحديث عن ملف الاستثمار، يؤكد خبراء الاقتصاد الأردني أن نسبة النمو التي توقعتها الحكومة في قانون الموازنة، وهي 2,5%، هي أكثر من المتوقع، في ظل توقع البنك الدولي نسبة 1,8% وهي نسبة معقولة. والسؤال: كيف لحكومةٍ، مثقلة موازنتها بخدمة الدين العام، أن تنجز ذلك النمو المتوقع؟ يجيب بعضهم: ما من سبيل غير تخفيف ضريبة المبيعات، وإطلاق مشاريع استثمارية مع القطاع الخاص، وأن تكون كبرى، كبناء محافظة جديدة، أو مدينة جديدة، وهو ما وعدت به، وأعلنت عنه حكومة هاني الملقي في أكتوبر/ تشرين الأول 2017، وقال الملقي يومها إنها ستبدأ بعد عام، وستمتد حتى عام 2050. وفي النهاية، غاب الملقي وغابت مدينته الموعودة، ولا وجود لما تحدّث به بشكل موثق في أدراج الحكومة، ولا في ملفات مجلس النواب، حيث تحدّث الملقي عن وعده الكبير يومها أمام كتلة الإصلاح النيابية، وأعلن عنها في أكثر من مناسبة.
بقي السؤال عن سبب تكرار الملك، قبيل أسابيع، الحديث عن ضرورة تعديل قانون الانتخاب، بعد فترة وجيزة على إتمام الانتخابات، وهو أمر أثار أسئلة كثيرة عن السبب، وهل هو التراشق الإعلامي المُهين للمؤسسات، بين رئيسي الهيئة المستقلة للانتخابات خالد الكلالدة، ذي الخلفية اليسارية، ورئيس المركز الوطني لحقوق الإنسان، ارحيل غرايبة، ذي الخلفية الإسلامية الإخوانية؟ جهد الكلالدة في محاولاته إقناع الجميع بأنه الأفضل والأنسب للأردن، في حين أن مُخرجاته على أرض الواقع كانت سلبية، ولم تسمح بالمشاركة الشعبية المنشودة. وكانت حوارية الرفيق خالد والشيخ ارحيل كفيلةً بأن تجعل الجميع في حالة ذهول من بؤس الحالة الاتهامية، والتراشق في السجال بشأن المهنية في العمل والمسؤولية عن الأخطاء. وللأسف، كانت نقطة الخلاف بين الطرفين عن اختصاص مؤسسة كل منهما، ما يعني ضمناً أن السجال والتراشق بين الرجلين كان خطأً مهنياً أيضاً.