الأردن: أسئلة مقلقة على عتبة المئوية الثانية

12 ابريل 2021

عبدالله الثاني والحسن وخلفهما حمزة في زيارة أضرحة العائلة المالكة (11/4/2021/الأناضول)

+ الخط -

وفّرت اتفاقية "التعاون الدفاعي" بين الأردن والولايات المتحدة التي وقعت أخيرا، وصودق عليها في فبراير/ شباط الماضي، مزايا عديدة للتعاون الأمني المشترك بين البلدين، وهو تعاون مقنن يعكس حجم القيمة التي يعنيها الأردن للولايات المتحدة حليفا مهما في المنطقة، ودولة بدت أهميتها أخيرا بعد الأزمة التي مرّ بها الأردن الأسبوع الماضي، وتبين خلالها قيمة الأردن، بالنسبة للغرب والإقليم العربي، وهي اتفاقيةٌ لقيت معارضة ورفضا من كثيرين. اليوم وقد عبرت الدولة الأردنية المئوية الأولى على التأسيس (11 إبريل/ نيسان 1921) للدخول بمئوية جديدة، ليس عند الأردنيين هواجس تهدّد كيانيتهم، ولكن لديهم أسئلة معلقة، وبخاصة بعد حادثة ما سمّيت "محاولة الانقلاب" أخيرا، التي كشفت ثلاث مسائل: الأولى أن العائلة والمؤسسة المالكة كبرت، ولم يعد القصر الذي كان يحكم به الملك حسين وحوله شقيقه وولي عهد الأمير حسن آنذاك هو المساحة السياسية ذاتها، وفي الأدوار الممنوحة للعائلة، والتي صار لديها جيل ثان، قد يملك الطموحات أو الرغبة في الأدوار، ولكن كلّ هذا الطموح يجب أن يظل محكوما بقانون العائلة الذي ينظم أمورها، والصادر عام 1937، وبما يكلف به الملك عبدالله الثاني الأمراء. ويجب أن يحتكم لإرث الحسين الذي حال دون تدخل غيره وغير ولي عهده بالشأن العام، وهو ما يجب أن يحترم مع الملك عبدالله الثاني وولي عهده، ابنه الأمير الحسين.

كان تفاعل الأردنيين مع رسائل الملك والأمير  حمزةكبيرا. وثمّة حملة تضامن هائلة مع الملك، باعتباره ضامن الاستقرار، وله بيعة عند الناس، وباعتباره بالنسبة للغرب حاكما عقلانيا

والثانية، أن الأردنيين، ومعهم الملك عبدالله، بعد كل هذا النضال والعمل لإنجاز دولة راسخة حداثية، واجهت تحدّيات جساما، لم يتوقعوا أن يكون الخطر (والتآمر) على بلدهم، ما شكل لهم صدمة: وهو ما قاله الملك في رسالته إلى مواطنيه بأن الفتنة كانت من داخل البيت وخارجه بقوله: "كان لي الأكثر إيلاماً، ذلك أن أطراف الفتنة كانت من داخل بيتنا الواحد وخارجه، ولا شيء يقترب مما شعرت به من صدمة وألم وغضب..". وهنا يحتمل معنى البيت الواحد الأردن بعامته، وضمنه بيت الأمير حمزة. أما خارجه فالاتصالات ستكشف والتحقيقات ستبين الكثير، والأجهزة الأمنية قادرة على إثبات كل ما يمكن أن تكون قد جرى.
هو شعور مؤلم وصادم أن يجد الملك أخاه في تلك الوضعية التي أوكل حلها وتصويبها للأمير الحسن بن طلال، كي لا يبقى أحد يمارس الوعظ السياسي على العائلة الهاشمية. ومع أن هذا الأمر، تاريخياً، موجود في السلالات الحاكمة، إلا أنه في الأردن الذي هو آخر عروش الهاشميين التي ضحوا بها في الحجاز والعراق وسورية، كان الأكثر ازدهارا وعطاءً للعرب وللأردنيين، وهو اليوم ظهر أنه الأكثر أهمية بالنسبة للغرب والإقليم ليكون أكثر استقراراً، والموقفان الأوروبي والأميركي واضحان نحو الملك عبدالله الثاني والأردن، ووجوب دعمهما واستقرار البلاد.
في خلفية تلك الحادثة، ووصولاً إليها، كان تفاعل الأردنيين مع رسائل الملك والأمير كبيرا. ثمّة حملة تضامن هائلة مع الملك، باعتباره ضامن الاستقرار، وله بيعة عند الناس، وباعتباره بالنسبة للغرب حاكما عقلانيا. وثمّة همس وأقوال عن حديث الأمير، المسجّل من طرفه قصداً، واستخدم فيه تعابير يعرفها الأردنيون، ولم تشكل لغة الأمير إلا فهماً خاصا بحاشيته والمنتفعين منه، ومن مشجعي الحراك، ولم تعكس للأسف حرصاً على الاستقرار، من قبيل "أنا ابن أبوي والتخبيص والخراب"، وهذا كله بعد حديث قائد الجيش الذي كان مؤدّباً ومحترماً، ويعكس قيم مؤسسته التي يعتبر الأمير ضابطاً متقاعداً منها.

ليس المجتمع الأردني اليوم معرّضا لانقسامات، لكنه مفتوحٌ على التحدّيات الجديدة في مواجهة العيش الكريم

تبقى تلك الحادثة بيد الأجهزة القضائية، ولكنها شكلت ندبة على أبواب المئوية الجديدة للدولة وقرن مضى بكل ما فيه، لتطفو اليوم أسئلة الإصلاح والفقر والوباء، وشكل النخب التي تحكم البلد وتديره، وهو سؤال زاد بعد اعتقال الوزير ورئيس الديوان الملكي السابق، باسم عوض الله؟ ثم لماذا الأردن متعثر في الاقتصاد والإصلاح السياسي؟ ذلك كله يجري السؤال عنه، على الرغم مما تحقق للأردنيين من ثورة تعليمية وبناء مؤسسات خدمية في قطاعات مختلفة، فمخاوفهم التي يعيشونها اليوم تكمن في توظيف القدرات العلمية، وما أنفقوه على تعليم أبنائهم، وإيجاد حياة أفضل لمجتمع فتي، ونبذ الضعف في المؤسسات وتراجع الخدمات، وهذا يجري وسط تراجعٍ مخيفٍ في المشاركة السياسية وضعف البرلمان وتحوّل الحكومات رؤساء ووزراء إلى شبه شلة ضيقة، وموظفين معتلّين يتفننون في الخيبات والتصريحات المتضاربة عن قطاعاتهم، والثأر من إجراءات أسلافهم، حتى وإن كانت إيجابية.
ما يقلق الناس في الأردن اليوم، ليست أسئلة الإصلاح السياسي ومخرجات الحوار الذي قال رئيس مجلس النواب، عبد المنعم العودات، أنه سيُطلق، بل ما يُشعر الناس بالقلق وجود المسؤول الضعيف، وتخلي الدولة عن مقدّراتها، وضياع فرص التنمية الحقيقية، وشيوع تقليد الصاحب يأتي بصاحبه للمنصب، هذا كله مع ما لدى الأردنيين تاريخياً من قلق وخوف على جوارهم الفلسطيني من الضياع والإلغاء، وهم الذين يتحملون اليوم كلف الحالة السورية والفوضى فيها، وبات اللجوء السوري إلى الأردن كبير الكلفة.
ليس المجتمع الأردني اليوم معرّضا لانقسامات، لكنه مفتوحٌ على التحدّيات الجديدة في مواجهة العيش الكريم، ويقف اليوم حائراً، أمام أسئلةٍ كبيرةٍ تتعلق بجدوى دعوات الإصلاح، وبحتمية قبول فكرة أن ما جرى، عبر ثلاثة عقود من العمل والتحديث، يحتاج إلى تغيير وتصويب واعتراف بحتمية مواجهة مطالب الناس بالعمل الأفضل وبأدوات جديدة.

في ظلّ التحولات البنيوية في الاقتصاد الأردني، ظهرت طبقةٌ من التجار الجدد، وتحطّمت البنى التقليدية من الزعامات المحلية

كان الأردن من بين الدول العربية السبّاقة إلى اتباع نهج الخصخصة من أواسط التسعينيات، ومن أوائل الدول العربية التي وقعت اتفاقية تجارة حرة مع الولايات المتحدة، وبعد موقفه في حرب الخليج الثانية ذهب إلى خيار مؤتمر السلام 1991، ووقع اتفاق وادي عربة، وأطلقت أيدي القطاع الخاص في الجامعات والمستشفيات والبنوك، لكن ذلك لم يرافقه تنمية حقيقية في الأطراف التي زادت هجرة إلى عمّان، وزادت غضباً على الحكومات. ففي ظلّ تلك التحولات البنيوية في الاقتصاد، والتي كان من مظاهرها تضخّم القطاع العام، وإيجاد مؤسسات موازية مشوهة للوزارات من هيئات مستقلة ترهق اليوم موزانة البلاد، ظهرت طبقةٌ من التجار الجدد، وتحطّمت البنى التقليدية من الزعامات المحلية، وخصوصا في السنوات الأخيرة، مع عدم الالتفات إلى مطالب الناس الحقيقية، والتي بدأت مبكرا من العام 2008 و2009 باعتصامات المزارعين ومربّي الماشية وعمال المناجم، ثم مطالب المعلمين بنقابتهم، وإضرابهم الكبير 2010. وتحطيم قطاع الزراعة. قاد هذا كله البلد إلى عقود من التخبط السياسي لأعمال الحكومات في إدارة ملفات الإصلاح والتحول الديمقراطي والتنمية، والتي تعود علتها الأساس إلى الانقلاب على الديمقراطية عام 1993 بقانون الصوت الواحد. وللأسف، كان الذي روّجته نخب وظيفية لكي يتمّ لجم المعارضة النامية آنذاك، والتي تمثلت بالإخوان المسلمين الذين مثلوا أغلبية المعارضة في مجلس النواب الحادي عشر، والذي عد الأفضل منذ التحول الديمقراطي عام 1989. لكن "الإخوان" آنذاك حصلوا على صفقتهم مع حكومة مضر بدران (جامعة خاصة وكليات شريعة ومدارس دينية ... إلخ)، ولاحقاً لم يكونوا واضحين، وعلّتهم في السياسة تتبدّى اليوم في تونس والمغرب وقبلها مصر، وهي من علل التمثيل السياسي حين يكون باسم الدين. ومعركة نقابة المعملين أخيرا في الأردن وتدخلهم في المناهج كشفت عن رغبتهم بالهيمنة على الشارع وجهاز التعليم ومناهجه التي كانوا من أسباب تراجعها، حين قادوا وزارة التربية عقودا.

النخبة الخيرة في الأردن تُغيّب، فإما دولة مدنية ديمقراطية، وحكومة مساءلة أمام البرلمان، أو دولة تقليدية وانتخابات شكليّة

اليوم، وعلى الرغم من كل ما في حقبة الملك عبدالله الثاني من توسع وبناء من مستشفيات ومدارس وجامعات، وبنى تحتية وحرية الاتصالات واندماج في سوق العولمة ونمو في القطاعات بشكل عام، إلّا أن هناك قدرا عميقا من الشعور العام عند الناس بأن كل شيء بيع. ومع أن هذا الشعور قد لا يكون صائباً، إلا أن الإجراءات على الأرض، وفي خطاب الحكومات، لا تبدّده، وثمة إحساس بأن المواطن أفرغ كل ما لديه، وأن الجميع مرهون للبنوك التي تسيطر عليها نخبٌ وعائلات محدّدة. وثمّة إحساسٌ عام بأن الحكومات عاجزة عن تغيير الشكل العام لواقع الإدارات. ومع أن البلد مليء بالكفاءات، يُصرّ رجال الحكومات على أن يأتوا بأصدقاء وجماعات ضيقة جرّبت سابقاً وفشلت، أو يحتكموا للتمثيل الجغرافي وهو حكم قاتل، الأمر الذي تعكسه أيضاً خيارات الشعب في مجلس النواب الحالي، والمنتخب في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، ويُرمى بانتقاد كبير، ففضح كثيرا من أسباب فشل بعضٍ من أصوات المعارضة التي كان وصولها إلى البرلمان أفضل من غيابها عنه اليوم، كما أنه كرّس وجود نواب الطاعة والولاء، في مقابل تغييب أصحاب الرأي والصوت الوطني، وهو ندبةٌ في علم الهيئة المستقلة للانتخابات.
نعم، النخبة الخيرة في الأردن تُغيّب، وهناك هواجس كبيرة وأسئلة معلقة، على الرغم مما يمكن تقريره أن في البلد خيراً كثيراً، كما أن الكفاءات وفيرة، ودرب الإصلاح بشكل عام غير واضح، فإما دولة مدنية ديمقراطية، وحكومة مساءلة أمام البرلمان، أو دولة تقليدية وانتخابات شكليّة يجري اختيار كتلها وزجّها للانتخابات، مع الخضوع للحكومات، كون هؤلاء النواب مختارين وأهل مصالح في السوق.

ثمّة من يريد لأسئلة الناس أن تتحوّل إلى غضب وانفجار اجتماعي، وهو أمر تصنعه الإدارات الضعيفة والحكومات المرتجفة

في الأردن، وعلى أبواب مئوية جديدة، مؤسّسات أمنية تحظى بثقة الناس، لكن ثمّة من يريد لأسئلة الناس أن تتحوّل إلى غضب وانفجار اجتماعي، وهو أمر تصنعه الإدارات الضعيفة والحكومات المرتجفة، وشيوع المحاصصة وتسخيف قيمة أسئلة الشباب عن مستقبلهم ومشاركتهم الفاعلة. ويخرج من يقول إن هناك عدمية وسلبية لا ترى الإنجازات التي حققها الملك، وهذا شعور ربما صحيح، لشابٍ مرهون اليوم لبنك أو مؤسسة إقراض، وهو بعد على مقاعد الدراسة، وهو مرشح ليكون من الغارمين لجامعة خاصة ترهن شهادته لديها كما البنك.
وهناك شباب لا يداومون في أعمالهم التي حظوا بها بالواسطة ويتقاضون رواتب، ويخرجون كمعارضة في الليل، وفي وقت يقول الملك بوجوب نزول المسؤولين إلى الميدان، ثم كان الجواب مؤلماً بعد أقل من شهر، حين رأى الناس الإهمال الذي تبدّى بالفساد الجهوي الشعبي الذي صنع كارثة مستشفى السلط الحكومي، وذلك لغياب المساءلة والجهوية القاتلة.
أخيراً، لدى الأردن على أبواب المئوية أسئلة كثيرة وملفات ليفتحها، ويجيب عليها، لكي يتبدّد القلق، ويشعر الناس أنهم في حال أفضل، والكل يرى أن الحل بيد الملك الذي رأى رجال حكومات يتهاونون ويأتون بأصدقائهم، فيصنعون الخيبات أو يكتفون بجلب أصدقائهم إلى الدوار الرابع (في عمّان) لتحسين راتبهم التقاعدي.

F1CF6AAE-3B90-4202-AE66-F0BE80B60867
مهند مبيضين
استاذ التاريخ العربي الحديث في الجامعة الأردنية، ويكتب في الصحافة الاردنية والعربية، له مؤلفات وبحوث عديدة في الخطاب التاريخي والتاريخ الثقافي.