اغتيال الصوت .. ولعنة إسرائيل
نقلت صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية عن مسؤول عسكري إسرائيلي قوله إنه "لا يمكن استبعاد أن تكون الرصاصة التي قتلت مراسلة الجزيرة شيرين أبو عاقلة صادرة من الجانب الاسرائيلي". وذكرت "واشنطن بوست" أنّ جيش الاحتلال يحقق في اتهام أحد عناصره بقتل شيرين في أثناء تغطيتها اقتحام العدو مخيم جنين، لتكون واحدة من قافلة طويلة من شهداء سقطوا على أرض فلسطين دفاعاً عن قضية هي الأطول في التاريخ التي تحاكي قضية استيطان، وتهجير شعب والتنكيل به وقتله بدم بارد.
اغتالت إسرائيل الكلمة الحرّة عمداً، علّ بذلك يسكت صوت ارتفع ليخبر العالم عن أفعال ذلك العدو الوحشية، والذي بات يؤرّق مضاجع قادتها، ويرسم في أذهانهم صورة خراب الهيكل وتشتيت اليهود من الإمبراطورية الرومانية. وعقدة زوال إسرائيل ليست جديدة، بل قديمة قدم تاريخ اليهود، إذ أبدى رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إيهود باراك، مخاوفه من قرب زوال إسرائيل قبل حلول الذكرى الـ80 سنة لتأسيسها، مستشهداً في ذلك بـ"التاريخ اليهودي الذي يفيد بأنه لم تعمّر لليهود دولة أكثر من 80 سنة إلّا في فترتين استثنائيتين". وقد كتب، في مقال له بصحيفة يديعوت أحرونوت، إنّه "على مرّ التاريخ اليهودي لم تعمر لليهود دولة أكثر من 80 سنة إلا في فترتي الملك داود والحشمونائيم، وكلتاهما كانت بداية تفكّكهما في العقد الثامن".
تجربة الدولة العبرية الصهيونية الحالية هي الثالثة، وهي حالياً في عقدها الثامن، ولهذا يخشى القيمون الصهاينة أن تنزل بدولتهم لعنة العقد الثامن كما نزلت بسابقاتها. ولم تكن ولادة تلك الدولة بطريقة نضالية لشعبٍ أراد الحياة والاستقلال، كما أغلبية الدول. بل تأسست نتيجة اغتصابها أرض فلسطين بسبب أعمال إرهابية مارستها العصابات الصهيونية زمن الانتداب البريطاني على المنطقة، ونالت بعدها قراراً أممياً تحت رقم 181، يكرّس وجود تلك الدولة.
لم يحقق الإسرائيلي من عملية "حارس الأسوار" انتصاراً ميدانياً يذكر، ولم يستطع القضاء على قدرة المقاومة على الصمود
وقد خاضت الدولة العبرية حروباً مع محيطها، وعمدت إلى تحسين صورتها مع الدول العربية، إذ أبرمت اتفاقيات سلام علّ ذلك يمنحها ثقة الوجود لشعبها الذي بدأ يفقدها، في ظل إرادة شعب فلسطيني يأبى الاستسلام، ولهذا تراه لا يوفر وسيلةً في القول أو الفعل إلا ويستخدمها للدفاع عن حقوقه المسلوبة.
في سياق تثبيت الثقة عند الإسرائيلي، ذكرت وسائله الإعلامية أن الجيش الإسرائيلي أوصى بعدم الذهاب إلى عملية في غزة، وبل بالبدء في المناورة الأكبر في تاريخه واسمها "مركبات النار". وأوضح المراسل العسكري لموقع واللا العبري أنّ "مناورة هيئة الأركان العامة الكبيرة التي تم تأجيلها العام الماضي بسبب عملية حارس الأسوار بدأت، وهي ستحاكي حرباً طويلة وعلى أكثر من جبهة".
تحتاج إسرائيل إلى مناورةٍ كهذه، لن تضم إليها فقط هيئة الأركان، بل ستمتد لتشمل جميع القيادات والأذرع والأقسام في مؤسسات الجيش لديها. إنها بحاجة إليها كي ترسّخ الثقة عند شعبها الذي بات يعيش قلق الوجود في كلّ لحظة، وداخل كل منطقة من الأراضي المحتلة. لهذا تراه مرتبكاً في تعامله مع العمليات الفدائية التي ينفّذها فلسطينيون في الضفة الغربية، واغتيال الصحافية دليل على ارتباك إسرائيل وعدم قدرتها على ضبط الكلمة الحرّة أمام الرأي العام الدولي.
لم يحقق الإسرائيلي من عملية "حارس الأسوار" انتصاراً ميدانياً يذكر، ولم يستطع القضاء على قدرة المقاومة على الصمود. ولهذا ترى زعاماتٍ فيه تطرح اليوم قضية الوجود، ولعنة الزوال في بداية العقد الثامن للدولة العبرية، مستذكرين تاريخهم، رابطين ما يجري في الداخل والخارج بأنه من علامات السقوط.
بات العدو الإسرائيلي يدرك أنّ معادلة الردع والرعب اليوم أقرب إلى حدود أمنه القومي من أي وقت آخر
بات العدو الإسرائيلي يدرك أنّ معادلة الردع والرعب اليوم أقرب إلى حدود أمنه القومي من أي وقت آخر، وأنّ "صفر خوف" هو عنوان الفلسطيني في مرحلة التحدّي المقبلة، وأن سقوط الشهداء لا يخيف شعباً يريد الحياة، بل يزرع في نفسه روح الدفاع عن بلاده المحتلة. وليست لعنة زوال إسرائيل في الارتباك الداخلي، وعند ضعف التعاطي معه فقط، ولهذا علت عنده لغة القتل، بل هي أيضاً لعنة خارجية تجلت منذ بداية الاجتياح الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير/ شباط 2022، حين تبنّت إسرائيل موقفاً سياسياً فريداً من نوعه. صحيح أنّها صوّتت (بعد تلكؤ) في الثاني من مارس/ آذار على القرار الذي اعتمدته 141 دولة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، لإدانة الغزو الروسي أوكرانيا، لكنّها رفضت تبنّي العقوبات الاقتصادية ضد روسيا وعدد من قادتها، كما رفضت مدّ كييف بمعدات عسكرية، وإنْ دفاعية.
... للمرّة الأولى منذ تاريخ تأسيس الدولة العبرية، يشعر القادة الإسرائيليون بخطر الوجود، وبأنّ لعنة العقد الثامن قاب قوسين من التحقق، رغم مناورة "مركبات النار" التي تجريها لبناء ثقةٍ بدأ الشعب يفقدها بجيش دفاعه. هذا ما يضع الوجود الإسرائيلي أمام تحدٍّ حقيقي، منه ظهور أزمة الثقة التي يعيشها الإسرائيلي في ظل انشغال الغرب بمحاربة روسيا في أوكرانيا ... أمام كل هذا الخوف، كان اغتيال الشهيدة التي لن تكون الأخيرة، لأنّ مسيرة الاستقلال والتحرّر دائماً مرتبطة بالدم.