اغتيال التاريخ والمستقبل: كيف خذلنا الخذلان
الصهيوني مشغولٌ باغتيال التاريخ بالقدر نفسه الذي ينشغل به في قتل المستقبل، إذ لا يركّز استهدافاته على الأطفال والنساء الفلسطينيين فقط، وإنما يستهدف قتل التاريخ والذاكرة باغتيال المعمّرين والمعمّرات الذين يحفظون الحكاية.
في بداية العدوان على غزّة ظهرت الفلسطينية الثمانينية هادية نصار في مقطع مع المصوّر الصحافي صالح الجعفراوي تسخر فيه من الاحتلال الصهيوني، وتقول "أنا أكبر من إسرائيل". وفي السادس من ديسمبر/ كانون الأول الماضي، أرسلت إليها إسرائيل الردّ مع قنّاصٍ أطلق الرصاص عليها أمام باب منزلها لتلفظ أنفاسها الأخيرة وتصمِت إلى الأبد.
قبل يومين، كتب الصحافي المرابط في غزّة، إسماعيل الغول، منشوراً: "مناشدة وصلتني: جيش الاحتلال يعتقل المسنّة نايفة رزق النواتي (السودة) تبلغ من العمر 94 عامًا بعد اقتحام عمارة الصلاح 3 غرب مستشفى الشفاء بمدينة غزة وعائلتها لا تعرف مصيرها حتى الآن. العائلة تناشد لمعرفة مصيرها ومخاوف كبيرة على حياتها". ثم يتساءل: ماذا يريد الإسرائيليون من مسنّة تسعينية؟!
هم يريدون قتل التاريخ، يا عزيزي، يستهدفون اغتيال الذاكرة الحيّة التي تحفظ أسماء البلاد وتعرف أصل الحكاية وتنقلها إلى الأجيال، وتشهد على وضاعة الاحتلال الأكثر خسّة وقذارة في التاريخ.
يريدون اقتلاع الرواية كما يقتلعون أشجار الزيتون، ثم يبدأون في فرض التاريخ المزوّر بوصفه الحقيقة، تعاونهم ترسانة هائلة من الإعلام الدولي، والعربي كذلك، تحارب بشراسة ووضاعة من أجل اختراع روايةٍ تجعل الاحتلال شريكاً في الجغرافيا، وجزءاً من المكان.
ليس غريباً هنا أن تصبح المراة الفلسطينية هدفًا لوساخة الاحتلال الأخلاقية، إن بالقتل، حيث أكثر من 70% من شهداء العدوان نساء وأطفال، أو بالاغتصاب والامتهان الجسدي والانتهاك الروحي، كما يحصل وكشفت عنه مداخلة السيدة الفلسطينية التي وجهت نداء استغاثة من مجمع الشفاء الطبي في غزّة وسمعها العالم عبر قناة الجزيرة.
"كنّا نسمع استغاثة النساء وهنّ يُغتصبن وأي شخص يقترب لإغاثتهنّ يتم قتله"، هكذا جاءت صرخة السيدة جميلة الهسي في شهر الصوم، بيد أنها لم توقظ أحداً، ولم تحرّك فعلاً، ولم تستنهض عالماً من علماء الأمة ليوجّه كلمة لملوك وسلاطين وقادة التواطؤ الأخرس على شعب شقيق، وهو التواطؤ الذي يسمّيه الصهيوني المخلص، أنتوني بلينكن، شراكة، حين يعلن من قلب القاهرة "نحن مصمّمون وكذلك إسرائيل وشركاؤنا في المنطقة على التعامل مع تهديدات حماس".
ليست المسألة إذن خذلاناً رسميّاً وشعبيّاً عربياً وإسلاميّاً للشعب الشقيق المقتول على مذبح الشراكة الاستراتيجية، ذلك أننا خذلنا الخذلان ذاته، حين تلاعبنا في مفهومه ومعناه، وصرنا نستخدم المفردة في وصف أعمالٍ هي للخيانة والدياثة والتآمر مع العدو أقرب.
المشهد الأول في جريمة التواطؤ بدأ في يوم 7 أكتوبر، حين تسابقت عواصم عربية في الاصطفاف مع البيت الأبيض والكيان الصهيوني في إدانة عملية طوفان الأقصى، فكان ذلك هو الأساس الذي بُنيت عليه كل الخذلانات والطعنات اللاحقة، إذ ليس بعد استنكار حقّ الشعب الواقع تحت الاحتلال في مقاومة المحتلين ذنب، سواء كانت هذه المقاومة فعل ابتداء، أو ردّة فعل على جرائم لم تتوقّف يوماً.
تلك كانت الهدية الكبرى التي تلقّاها الكيان الصهيوني، فذهب يمارس كل أنواع الجريمة في العدوان على الشعب الفلسطيني في غزّة مطمئنًا إلى أن لديه تفويضاً أخلاقيًا من أنظمة عربية لم تعترض على مبدأ اجتياح غزّة وإنما فقط لديها ملاحظات خجولة على حجم الاجتياح والعدوان، وطول مدّته، فسمعنا مبكّراً من يعارض التهجير العابر للحدود الخارجية، لكنه لا يمانع من مبدأ التهجير في الداخل.. ورأينا من يشاطر الاحتلال العداء للمقاومة ويعتبرها عنصرًاً غريباً، من خارج الإجماع الوطني الفلسطيني، مثلما فعل وزير الخارجية المصري وحكومات عربية أخرى تتعجّل إبادة المقاومة لفتح الطريق أمام التطبيع المؤجّل أو المعلق.
معظمهم مشاركون للعدوان في تزوير التاريخ وتزييف المستقبل، من خلال تدمير الحاضر، عن طريق جيوش "السوشيال ميديا" التي تطلق مدافع سفالتها على كلّ من ينتصر للحقّ الفلسطيني في المقاومة، لنصل إلى اللحظة التي باتت معها الحربُ على المواقع الإلكترونية أهم عند الاحتلال من الحرب العسكرية، فتعلن الخارجية الأميركية أن الحكومة الإسرائيلية طلبت استهداف مستخدمي وسائل التواصل لتسييد الرواية الصهيونية عن "طوفان الأقصى". وتكشف مذكرة للخارجية الأميركية أن إسرائيل تخطّط لحملة مماثلة على وسائل التواصل قريبا في مصر والأردن ودول الخليج.
والحال كذلك، ستشهد الأيام المقبلة قصفاً معلوماتيّاً عنيفاً تشنّه إسرائيل عن طريق المواقع الإلكترونية التي سيجري إغراقها بأسماء عربية، تضاف إلى قطيع من أصحاب البرامج والحسابات المؤثّرة، وآخرين سوف تعرفونهم في لحن القول، لاستهداف الجمهور العربي.
ستجدهم يذرفون الدمع أمامك غزيراً على أطفال فلسطين ونسائها، ثم ينتقلون مباشرة إلى صلب الموضوع: شيطنة المقاومة واستنكار بطولاتها وتحميلها مسؤولية تدمير غزّة.. هم العدو فاحذرهم.