اعتذار إلى مصر.. وعنها
أسراب من الجراد الإلكتروني تسرح على شبكات التواصل الاجتماعي، وقطعان من الأصوات تمرح في الفضاء التلفزيوني، وكثير من"المكرم محمد أحمد"، وأكثر من ذلك من"الشعبان عبد الرحيم"، مع تشكيلاتٍ مختلفة من منصّات البذاءة ومضخات القبح وروافع الكذب.. تلك هي ترسانة مصر السيسية الآن في الحرب المجنونة على قطر.
ابتداءً، ما نتحدّث عنه ونرصده ونشير إليه، ونتخفى خجلاً منه، ليس هو مصر الحقيقية، التي يعرفها كل مدركٍ في العالم، بل هو طور منعدم القيمة، منخفض القدر، حد الوضاعة، منها، وهو طورٌ لا علاقة له من بعيد أو قريب بما يعرفه العارفون عنها، ويحفظونه له.
من المهم، وقد هدأ الغبار، أن نبحث عن وجه مصر في هذه المعركة المسعورة، أو بالأحرى الوجه الذي ظهرت به مصر الرسمية خلالها، ونحاول المقارنة بينه وبين وجه مصر، كما هو في الحقيقة، أو كما ينبغي أن يكون.
لن نقارن بين ما هو كائن، الآن، وما كان في أزمنة أخرى، عرف العالم فيها مصراً كبيرة ورائدة، وعنواناً لا يخطئه أي باحث عن مفاتيح تخص استقرار المنطقة، أو حتى فوضاها.. لن نقارن بما كان قبل يوليو/ تموز 1952 أو ما بعده، في فترتي جمال عبد الناصر، وأنور السادات.. سنقارن بين كنزين استراتيجيين، بالميزان الإسرائيلي، بين قاهرة عبد الفتاح السيسي وقاهرة حسني مبارك.
على مستوى النظامين، لا توجد اختلافاتٌ جوهريةٌ في المضمون، إذ يعتمد كلاهما أسلوب المبلغ قبل المبدأ، والمكسب قبل القيمة، وقد كان ذلك الأساس السياسي والاستثماري الذي انطلق منه حسني مبارك لصياغة مواقفه مما يجري على الساحة العربية، وعلى سبيل المثال أزمة العراق، غزواً ثم احتلالاً وتدميراً، والموضوع الفلسطيني الذي تحول عند النظام المصري إلى وسيلةٍ سياسيةٍ لجني أرباح اقتصادية، فكان أن تحولت مصر من لاعبٍ رئيسيٍّ ومقر طبيعي لاحتضان القضايا العربية، إلى فندقٍ يستضيف اللاعبين الجديد، ويوفر لهم الإقامة الفاخرة، ثم يكتفي بتحصيل الفواتير.
مع عبد الفتاح السيسي، لم يتغير، كثيراً، جوهر الموضوع، إذ يبدو أنه قرّر أن يواصل اللعب بالمضمون، وفي المضمون، لكنه، على مستوى الشكل، انتقل إلى وضعيةٍ أكثر بؤساً من وضعية المضيف المتربح، وانتقل إلى حالة المشجع الهتيف، بأجر، في الملاعب الخارجية، فيرتحل حيثما تساقطت المكاسب الصغيرة، لينحني يلتقطها برشاقةٍ، ويمارس أدوار مطلقي الشعارات البذيئة وقاذفي الطوب، من خارج الخطوط، يفعل ذلك بكل همةٍ ونشاطٍ واندماجٍ في الحالة، حتى يصل إلى مرحلة التوحد مع اللاعبين، وهو ما يفضي إلى نوعٍ خطير من الهستيريا، إذا ما استشعر انفضاض الموقعة فيصيبه الغم والهم، ويصرخ مذعوراً من شبح التهدئة بين الخصوم.
من يمر سريعاً على منصّات السيسي الإعلامية في الساعات الأخيرة سيجد ذلك الهلع من احتمالات الوصول إلى تهدئةٍ في أزمة الحصار الجائر على قطر، فترى أصواتاً مرتعشة، تنادي على السعودية والإمارات، وحتى إسرائيل، أن تواصل الحرب على قطر، وحصارها حتى يختتق آخر مولود قطري، وترى استدعاءً لمطرب القبح في الأيام الأقبح، شعبان عبد الرحيم، ينعق بغناءٍ يدفعك إلى البكاء على مصر الحقيقية، كما عرفها العالم، وكما ينبغي لها أن تكون.. وتجد مكرم محمد أحمد، عجوز الصحافة المصرية، وقد اشتعل القلم إسفافاً وبذاءة، وبلغ التدنّي في اللفظ وفي الفكر منه مبلغاً.. وترى ناصريين يغطّون وجوههم ويضعون أصابعهم في آذانهم، وهم يطالعون الإهانات البذيئة من الصحافة السعودية لزعيمهم التاريخي.. ولا تعدم قوميين عرب يردّدون عبارات الليكود الصهيوني، ويصطفون معه في المواقف من المقاومة الفلسطينية..
باختصار، ما تراه الآن هو ما وصفته سابقاً بأنه النسخة الرخيصة والمزيفة من مصر الحقيقية، على المستويات كافة، من السلطة إلى المعارضة، من النخب إلى الجماهير، إذ بلغ التشوّه حداً مخيفاً، مع هذا التآكل السريع في الغلاف القيمي المحيط بها.
أو كأن مصر كلها محبوسةٌ داخل كهف أفلاطون، ظهرها للنور ووجهها للظلام، ومن الخلف يتلاعب السجان بالأشكال والظلال، فيصير ما يراه الناس، المكبلون بالقيود، منعكساً على الحائط الوحيد أمامهم، من ظلال باهتة للأشياء، هو الحقائق، بالنسبة لهم، وهم على هذه الوضعية الفقيرة من الإدراك.. حتى إذا أخرجوا من ظلام الكهف إلى نور الواقع، رفضوا أن يصدّقوا أن ما وقعت عليه أعينهم هو الحقيقة، واعتبروه خيالاتٍ وصور مزيفة للأشياء الحقيقية.
والوضع كذلك، فإن الاعتذار واجبٌ لمصر الحقيقية .. كما أن الاعتذار أكثر وجوباً عن بذاءات "مصر المزيفة".