اشهد يا "محمد محمود"
أربع سنوات مرت على أشرف معارك ثورة يناير المصرية.
نعم موقعة "محمد محمود" هي الأكثر تجسيداً للجوهر الأخلاقي للثورة، والمعنى النظيف لها.
وحتى لا ننسى، فقد كانت الشرارة التي أطلقت غضب الثورة من مكمنه، وأعادته إلى الميدان، مرة أخرى، ذلك الاعتداء الهمجي الذي قامت به قوات الأمن ضد عشرات من المعتصمين، من مصابي شهداء "يناير" وذويهم، في ذلك اليوم من النصف الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني 2011.
بدأت القصة بمليونية ضخمة في ميدان التحرير، تنافس فيها أفيال السياسة المصرية، فوق أرضية الميدان، فريق يحارب ضد وثيقة علي السلمي، نائب رئيس الوزراء، الذي لا يرى بالعين المجردة عصام شرف، تلك الوثيقة التي قذف بها المجلس العسكري إلى الساحة، ليضمن امتيازات خاصة به في الدستور القادم.. وفريق آخر يخوض حرباً ضد معركة مفتعلة، حول الشريعة الإسلامية وعلاقتها بالدستور.
وبين الفريقين، أو على أطراف الميدان، ظن أهل الثورة الأصليون، مصابوها وجرحاها وذوو شهدائها، أن أحداً ممكن أن يهتم بقضيتهم، في هذه المبارة الحاشدة. وما أن انتهت المواجهة، وانفض فريق الوثيقة، وفريق الشريعة عن الميدان، قرر ممثلو أسر الشهداء والمصابون الاعتصام حتى يتذكّرهم أحد. وذات صباح، جاءت القوات الباسلة لتحرق خيامهم البسيطة، وتعتدي عليهم وتطردهم خارج حدود الميدان.
هنا استيقظ الضمير الثوري، وتداعى الجميع للعودة إلى الميدان، وتزايدت الأعداد، حتى بدا الميدان، وكأنه استعاد أيام وليالي يناير/ كانون الثاني.. هنا، قرر العسكر استخدام كل أسلحتهم، من عبوات غازات سامة، وشخصيات سياسية وحزبية فاسدة، ودارت معركة سقط فيها أكثر من أربعين شهيداً، وسقطت فيها قوى حزبية ورموز سياسية، أخلاقياً، فيما سطعت شخصيات أخرى، انحازت للثورة، ولو على حساب الحزب أو الجماعة، فتألقت عروس شهيدات رابعة، أسماء البلتاجي، ووالدها المحترم، السجين حالياً، وكانت مناسبة لكي تغتسل الثورة مما لحق بها من رذاذ الصفقات والتحالفات الانتخابية، إلا هؤلاء الذين استقبلتهم مزبلة التاريخ، وقد كتبت عنهم يومها ما يلي:
إنهم ذاهبون إلى مزبلة التاريخ، أعني الجنود والضباط والقادة الذين أشرفوا على عملية ذبح الثورة والثوار في ميادين الكرامة، من أصغر جندي وأصغر ضابط سحلا المتظاهرات على الأسفلت، وألقيا جثث المتظاهرين فوق أكوام القمامة، إلى أكبر مسؤول أصدر الأوامر بشن الحرب على شعب أعزل.
وفي مزبلة التاريخ أماكن لآخرين من نخبةٍ كاذبةٍ تمسحت يوماً في الثوار، ثم تخلت عنهم حين جلست على موائد التفاوض، لتبدأ بعدها عمليات الإبادة الجماعية بالغازات السامة، فيما سيق الأفاقون إلى شاشات التليفزيون وميكروفونات الإذاعة، ليكملوا عملية قصف الثوار بكلام ساقط ومفضوح عن اشتباكات بين المتظاهرين وقوات الأمن، في محاولة لتصوير الأمر وكأنها معركة بين فريقين متساويين في القوة.
لقد جرى شحنهم إلى التفاوض مع المجلس العسكري حول مجموعة مطالب ثورية محددة، كان أول مطلب فيها إيقاف المجزرة الدائرة ضد الشعب الأعزل، والذي حدث بعد الاجتماع أن مؤشر الإجرام والهمجية ارتفع إلى حد استخدام غازات قاتلة، ولم نسمع أن أحداً من الذين اجتمعوا مع المجلس توجه إلى الميدان، ليعلن تضامنه مع الثوار.
وكان من المطالب الإعلان عن تشكيل حكومة إنقاذ وطني فوراً تتولى إدارة شؤون البلاد، والذي حدث أن بيان المشير تضمن وعداً بذلك فقط، من دون تحديد لأسماء.
وكان منها أن يصدر اعتذار فوري للشعب المصري على الفظائع والجرائم التي ارتكبتها الآلة العسكرية بحقه، وكانت الاستجابة فورية بمزيد من الرصاص والغاز السام المحرّم دولياً، ليسقط شهداء جدد وآلاف المصابين.
كانت آلة القتل تعمل بكامل طاقتها، فيما انشغل أصحاب المائدة بالسفسطة والتنظير، من دون أن يقدم أحد على خطوة محترمة، من شأنها إيقاف المهزلة، وكأنهم يتفرجون على مشاهد تجري في الأراضي المحتلة، ومن ثم تكفي مصمصة الشفاه.
لقد اختفى الذين كنا نحسبهم آباء الثورة، فيما خلت الساحة الفضائية لعبيد المجلس العسكري، الذين كانوا عبيد نظام مبارك، وسيكونون عبيد أي نظام قادم، ليتحدثوا بوقاحة عن أصابع خارجية، ويستهجنون أن يطلق على ما يجري توصيف "الموجة الثانية من الثورة"، ويذهب أحدهم إلى أبعد من ذلك، متمرغاً في تراب الميري ليقول إنه مخطط أجنبي، على الرغم من أن رد فعل البيت الأبيض يوفر غطاء للمجزرة، ويعلن أن ما تم الإعلان عنه يكفي.. ويخرج آخر ليصادر على إرادة الشعب، ويقول إنه لو جرى استفتاء سيختار الناس بقاء العسكر.
إنها لحظة الانكشاف والتعري، والصمت على الجريمة، فيما كان المنتظر أن تنزل نخبة المائدة إلى الشارع، لتعلن للعالم كله أنها خدعت، وساهمت في الخداع.