استنزاف روسيا وملاعبة الغرب

04 يوليو 2022
+ الخط -

رغم أن الأوكرانيين يشعرون بالمرارة والألم لما يعتبرونها خيانة من الغرب، خصوصاً حلف الناتو، وعلى رأسه الولايات المتحدة، لا يزال الرئيس الأوكراني، زيلينسكي، يبحث عن مزيد من المساعدات العسكرية والاقتصادية الغربية لبلاده، وهو في ذلك مجبرٌ لا بطل. بل إنه يكاد لا يملك من أمره هو شخصياً شيئاً، ولولا أن القيصر الروسي بوتين ليس في عجلةٍ من أمره، لاغتال زيلينسكي أو اعتقله من الأيام الأولى للحرب. وبشكل عام، يمكن بسهولة ملاحظة الاستراتيجية الروسية في إدارة الأزمة وتسيير العمليات العسكرية هناك. والتي تقوم على سياسة الخطوة خطوة، وعدم الاندفاع العملياتي، تجنّباً لتكبد خسائر كبيرة ستنتقص كثيراً من قيمة النصر العسكري الذي يرى بوتين أنه قادر على تحقيقه وقتما يريد. وبالتالي، لا داعي لدفع ثمن باهظ فيما يمكن تحقيقه بكلفة أقل.
هذا الحذر الروسي منطقي ويعبر عن ذكاء بوتين، رجل الاستخبارات العتيد الذي يعتبر الأزمة جزءاً من صراعٍ أوسع وأعمق مع الغرب، حيث أوكرانيا، بحد ذاتها، ليست غاية، ولا هي بتلك الأهمية الجيواستراتيجية الكبيرة بالنسبة للغرب. كما يدرك بوتين أيضاً أن أغراض واشنطن لا تقف عند إظهار موسكو قوة احتلال متوحّشة، وإنما أيضاً استظهار ما لدى موسكو من قدراتٍ وإمكاناتٍ متقدّمة لم يختبرها الغرب بعد. لذا، يجري استخدام القوات الروسية الأسلحة الحديثة في العمليات ضد أوكرانيا بشكل محدود وبالتدريج. فيما يشبه الكشف الاضطراري الذي توجبه التطورات العملياتية على الأرض، وليس من قبيل الاستعراض العسكري.
ثم يأتي الغرض الأبعد والأهم بالنسبة لواشنطن وبعض حلفائها الغربيين، وهو استنزاف القوة الروسية، ليس فقط عسكرياً وإنما اقتصادياً وسياسياً، بل معنوياً أيضاً، بالتركيز الإعلامي على الجوانب الإنسانية في الأزمة وأعداد اللاجئين والمآسي التي يتعرّض لها الأوكرانيون الفارّون من ويلات القصف الروسي. فضلاً، بالطبع، عن العقوبات الاقتصادية التي نجحت واشنطن في تمريرها بصعوبة لدى بعض حلفائها، بينما لا تزال معطلةً عن التنفيذ من حلفاء كثيرين لهم مواقف متحفّظة حيال منطق العقوبات وجدواها، بل ومبرّرات إشعال الأزمة ككل من بداياتها.
وعلى الرغم من هذه السجالات التي زادت الأزمة تعقيداً، وتبدو كأنها أطالت أمد الحرب، الواقع أن الحرب مرشّحة للاستمرار لفترة غير معلومة، والأزمة ستطول ربما إلى أمد مفتوح. هناك أسباب كثيرة واقعية لهذا التوقع، تبدأ من صعوبة إنهاء عملية غزو شاملة من دون وقوع خسائر كبيرة في الأرواح والمنشآت الحيوية، وهي مسألةٌ ليست شكلية أو هامشية في الوقت الحاضر، خصوصا في ظل تداخل المواقف والحسابات الخاصة بالعقوبات على موسكو.
ثمّة سببٌ جوهريٌّ آخر لاستمرار الحرب إلى زمن غير محدّد، هو إصرار واشنطن على عدم الاكتفاء بما تم من استنزاف لموسكو. ويتّضح هذا الإصرار من تقديم واشنطن وبعض الدول الغربية، مثل بريطانيا وإيطاليا، الأسلحة والمعلومات الاستخبارية إلى أوكرانيا، بشكل تدريجي وبطيء. وفق وتيرة "نقطة .. نقطة"، بحيث يظلّ حجم التسليح الغربي لأوكرانيا وفعاليته أقل من المطلوب لتحقيق نصر حاسم وطرد الروس، لكن يكفي لتمديد الحرب واستمرار استنزاف الروس. أي ببساطة هي عملية "إدارة" عن بعد للحرب، لضمان استمرارها والتحكّم في وتيرتها بواسطة دعم عسكري غربي لكييف، لا هو كافٍ لهزيمة روسيا وخروجها، ولا هو يسمح بانهيار أوكرانيا ووقوعها كاملة تحت الاحتلال الروسي. 
إنه توافقٌ غريبٌ بين طرفٍ يستنزف الآخر إلى آخر مدى، فيما الثاني ليس في عجلةٍ ولا مشكلة لديه في الوقت ولا الخسائر، ما دام يحقّق أهدافه وفق خططه. وهكذا يرى كل منهما أنه من يدير الأزمة ويتحكّم في الحرب، ويُنهك بها الطرف الآخر.

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.