عن الاستقبال الإمبراطوري لرئيس الدولة العبرية في تركيا

17 مارس 2022

أردوغان وهرتسوغ يستعرضان حرس الشرف في مطار أنقرة (9/3/2022/الأناضول)

+ الخط -

يبدو أن العثمانية الجديدة، أو نوستالجيا الإرث العثماني الإمبراطوري، تجلّت، في أبعادها المادية والرمزية والتاريخية، من خلال استقبال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الرئيس الصهيوني إسحاق هرتسوغ، يومي 9 و10 مارس/ آذار الجاري في أنقرة. وُصفت الزيارة في وسائل الإعلام الدولية بأنها نتاج "دبلوماسية الجواسيس"، والتقارب الذي ترتّبه أجهزة المخابرات واختراقاتها مؤسسات الدول القيادية وفرض المقاربات الأمنية والتحالفات الاستراتيجية سندا ومرجعا في الأنشطة والخيارات السياسية. وتعدّ هذه الزيارة أيضا من مقتضيات روابط تاريخ الزمن الحاضر الذي لا يُستنشقُ منه أي عبق ورائحة زكية، ولا يستشفّ منه معنى ورمزية، لحينيته وسطحيته وبراغماتيته التي تتعالى، أحيانا، كما في العلاقة التركية - الصهيونية، على روابط الدين والحضارة والانتماء الضاربة في القدم، وعلى قيم القضايا الإنسانية العادلة التي تعتلي سلّمها القضية الفلسطينية.

ينبئ التاريخ عشّاقه ودارسيه، الباحثين في أسراره المطمورة في ثناياه ودفاتر أحداثه، المفكّكين طلاسمه وخفاياه، بأن اعتراف تركيا بـ"إسرائيل" يعود إلى سنة 1949، أي بعد سنة من إعلان قيام دولة الكيان الصهيوني في 15 مايو/ أيار 1948، ما يفسّر القبول بانضمامها إلى حلف شمال الأطلسي مبكّرا (سنة 1953)، وهي أوّل دولة مسلمة تقيم علاقة مع دولة الاحتلال العبرية، لتستمرّ من دون انقطاع 73 سنة، مع استثناءاتٍ جاءت في شكل مطبّاتٍ لم تصل البتة إلى القطع الكامل للعلاقات وغلق التمثيليات الدبلوماسية، على غرار واقعة أسطول الحرّية سنة 2010 التي قتل فيها جيش الاحتلال مجموعة من الناشطين الأتراك وغير الأتراك، عند محاولتهم كسر الحصار على غزّة، أو تلك المتزامنة مع الجرائم التي مارستها دولة الاحتلال على المدنيين الفلسطينيين إبّان الانتفاضات الفلسطينية المتواترة. وصمدت هذه العلاقة واستمرّت في ظل جميع الحروب العربية الصهيونية في 1956 و1967 و1973 و1982 و1991 (قصف "إسرائيل" بصواريخ عراقية) و2006 (العدوان الصهيوني على لبنان)، وبالتوازي مع الانتفاضات وأعمال المقاومة الفلسطينية السلمية والمسلحة في سنوات 1987 و2000 و2008-2009 و2012 و2014 و2021، ضد الاحتلال وجرائمه، اغتصاب الأرض والمقدّسات وقتل المدنيين العُزل بدم بارد على الهوية. وهي حروبٌ وانتفاضاتٌ ارتقى فيها ما يزيد عن مائة ألف شهيد، كلّهم من العرب والعرب الفلسطينيين حسب إحصائيات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني (أنظر، "شهداء فلسطين 100 ألف قتلوا منذ النكبة"، "العربي الجديد"، 13/5/2019). وقد سُجّل في دفاتر التاريخ التركي - الصهيوني أن تركيا امتنعت سنة 1967 عن التصويت لصالح قرار أممي يعتبر "إسرائيل" دولة معتدية، وعارضت قرار منظمة المؤتمر الإسلامي سنة 1969 الذي يدعو الدول الإسلامية التي تقيم علاقات دبلوماسية مع "إسرائيل" إلى قطعها على خلفية حرق قطعان الصهاينة المسجد الأقصى، وأنها ارتقت ببعثتها الدبلوماسية من رتبة مفوض سنة 1963 إلى سفارة بداية من سنة 1980، ووقعت سنة 1996، على هامش زيارة الرئيس التركي العلماني سليمان ديميريل "إسرائيل"، اتفاقية التعاون العسكري التركي - "الإسرائيلي". وشهدت السنة نفسها توقيع رئيس الحكومة التركية الإسلامي نجم الدين أربكان اتفاقية الدفاع المشترك والصناعات الحربية بين تركيا و"إسرائيل"، وأُردفت سنة 1997 بتوقيع الطرفين اتفاقية التجارة الحرّة التي دخلت حيّز التطبيق سنة 2000.

يعدّ ما أتاه أردوغان من استقبال إمبراطوري للرئيس الصهيوني درساً للإسلام السياسي الفلسطيني، وخصوصاً حماس

ونمت العلاقة التركية - الصهيونية بشكل لافت بعد تولي حزب العدالة والتنمية، الإسلامي، السلطة بداية من سنة 2002، من خلال زيارة رئيس الحكومة أردوغان "إسرائيل" سنة 2005، ووضع إكليل من الزهور على نصب الهولوكوست، مصحوبا بفيلق من الوزراء ورجال الأعمال، وكان في استقباله آنذاك رئيس الحكومة الصهيونية أرئيل شارون، المنعوت بدمويته وجرائمه المعلومة في علاقته بالعرب والفلسطينيين (مجزرة صبرا وشاتيلا سنة 1982) وبالمسجد الأقصى الذي أبى إلا أن يدنّسه سنة 2000. وفي سنة 2008، زار الرئيس الصهيوني شمعون بيريز أنقرة، وألقى خطابا من على منبر برلمان تركيا المسلمة والإسلامية. وجاءت زيارة هيرتسوغ أخيرا لتؤكد أن الدفء قد عاد إلى العلاقة التاريخية التي ناهزت ثلاثة أرباع القرن، المترجمة في اتفاقيات استراتيجية أمنية وعسكرية وارتباطات اقتصادية تكشف أهميتها الأرقام وحدها، المكذّبة مناكفات السياسة التي تفيد بأن عدد السياح الصهاينة الذين يزورون تركيا سنويا يصل إلى 360 ألف سائح، يتجاوز إنفاقهم 600 مليون دولار، وأن حجم المبادلات التركية - الصهيونية كان في حدود 336 مليون دولار سنة 1995 ليرتفع إلى ملياري دولار سنة 2005 وإلى ستة مليارات دولار سنة 2019، ووعد الرئيس التركي نظيره الصهيوني بأن يصل حجم المبادلات إلى عشرة مليارات دولار في المستقبل القريب.

نمت العلاقة التركية - الصهيونية بشكل لافت بعد تولي حزب العدالة والتنمية، الإسلامي، السلطة بداية من 2002

وقد شكّلت زيارة الرئيس الصهيوني واستقباله الإمبراطوري في أنقرة طعنة في ظهر القضية الفلسطينية وفصائلها المقاومة، وغلبت فيها المصلحة القومية التركية عدالة تلك القضية، وانتصرت فيها المصالح والمنافع، مثل تأمين مرور أنبوب الغاز "الإسرائيلي" عبر الأراضي التركية إلى أوروبا لتعويض الغاز الروسي، انتصرت على دماء الشهداء الذين ارتقوا من أجل الأرض المغتصبة والمقدّسات التي تدنّسها يوميا مجموعات القتل الصهيونية وتسعى إلى تهويدها ضمن مخطط التهويد الشامل وطمس المعالم الإسلامية في فلسطين، وهو المخطط الذي تعلمه "الحكومة الإسلامية" التركية وتدرك خفاياه وخطورته. ويبدو أن ما كان يردّده أردوغان قبل وصوله إلى هرم الحكم سنة 2002، وسُجن لأجله، وكرّره تحدّيا في مؤتمر حزبي لحزب العدالة والتنمية سنة 2019 بقوله "مساجدنا ثكناتنا، وقبابنا خوذاتنا، ومآذننا حرابنا، والمؤمنون جنودنا، هذا هو الجيش المقدّس الذي يحرس ديننا"، هي مجرّد كلمات للتسويق والدعاية وكسب الأنصار وتعبئة المؤيدين ودغدغة المشاعر الدينية، فهو الذي أعلن في 13 ديسمبر/ كانون الأول 2017 قرار المؤتمر الاستثنائي لقمة منظمة التعاون الإسلامي أن القدس عاصمة دولة فلسطين، وأضاف، في خطابه في أعمال الدورة الثالثة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة، يوم 25 ديسمبر/ كانون الأول 2018، أنه "سيظلّ مدافعا عن الوضع القانوني والتاريخي للقدس حتى لو أدار العالم ظهره لفلسطين"، فإذا به باستقباله الرئيس الصهيوني وتغليبه المصالح الاقتصادية على المبادئ الإنسانية وعلى الحقوق المشروعة والتاريخية يمارس نقيض أقواله وخطبه المشحونة دينيا.

يعدّ ما أتاه الرئيس أردوغان من استقبال إمبراطوري للرئيس الصهيوني درسا للإسلام السياسي الفلسطيني، وخصوصا حركة حماس التي لطالما تباهت بعلاقاتها بتركيا الإسلامية، واكتفت، هذه المرّة، بإصدار بيان ناعم في الغرض. وقد جاءت استضافة أردوغان هرتزوغ عدوّ فلسطين الأول، ودماء شهداء انتفاضة سيف القدس وجرحاها لم تجفّ بعد، وآثار الدمار والعدوان على غزة وعلى حي الشيخ جرّاح في القدس وسلوان لم تُرفع بعد، واقتحامات المستوطنين والجنود الصهاينة المسجد الأقصى لا تتوقف، وأن من مقتضيات الأخوة في الدين والعقيدة التي أشاد بها الرئيس التركي في مناسبات عدّة مقاطعة دولة الكيان الصهيوني، وليس استقبال قادتها وعقد الصفقات الاقتصادية والعسكرية وتبادل المعلومات الاستخباراتية وتنظيم المناورات المشتركة معها، للمساهمة في ثنيها عمّا تقوم به منذ انبعاثها من تشريد شعب وتحويله إلى شتات وتصفيته واغتيال قادته من دون تفريق بينهم (أبو عمار وأبو جهاد وأبو علي مصطفى وأحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي)، والاستحواذ على أراضيه ومساكنه ومدنه ومدارسه ومساجده وكنائسه ومصانعه ومزارعه وطمس هويته الدينية واللغوية، ومعالم وجوده على الأرض، ولم تنج من الاعتداءات الصهيونية حتى مقابره.