استراتيجية الدولة الوطنية في المغارب: بين الصراع والتحالف
من المفارقات البارزة المُحَيّرة أن العلاقات المفترضة بين الدول المغاربية لم تشهد فترات من السلم العام وأخرى من الاطمئنان واستقرار الدولة (لا المجتمع) إلا في الفترات التي كانت فيها خاضعة للقوة الأجنبية وتحت سطوة نيرها الاستعماري أو الحمائي. يتعلق هذا بشكل خاص بالمراحل التي تلت تقسيم شمال أفريقيا ودوله التاريخية بين القوى الاستعمارية في مرحلة البروز الإمبريالي وتوسّعه في مختلف الأرجاء بحثا عن الثروة والأسواق. ومن المعروف أن القوى الأجنبية استقرت في البلدان المغاربية (فرنسا وإسبانيا وإيطاليا)، باحتساب المدّة التي تجاوزت القرنين (منذ 1830 مع احتلال الجزائر)، ضمن مخطّط شامل للغزو الاستعماري المصحوب بالتبشير المسيحي والاستغلال الفوري لخيرات ومقدّرات الدول التي كانت قائمة في حال من الضعف التام على جميع المستويات. وأول ما طمحت إليه في ذلك الغزو استتباب الأمن وضبط الاستقرار والتغلب على المقاومات المحلية والشروع الفوري في بناء مقوّمات اقتصاد رأسمالي تبعي يسهّل عملية الاستغلال الشامل، وينشئ من حوله قواعد ضامنة لتطوّر مستقبله الاستعماري في بلدانٍ كانت قد انمحت فيها جميع الأسس السياسية والبنيات الإدارية التي سادت فيها، فترات خلت، قبل السيطرة العثمانية الفعلية في البدايات الأولى للقرن السادس عشر وبعده.
مرادي أن أقول إن السيطرة الاستعمارية هي التي أوجدت، بالمعنى الحديث، بنيات الدولة الوطنية، وهي التي قرّرت، بفعل الضغط المقاوم والتضحيات الكبرى، بَعْثَهَا أيضا على ضوء محدّدات عصرية من خلال "الاستقلال" الذي منحته لها على ضوء المفاوضات التي قرّرته. وأيضا على ضوء النتائج التي تمخضت عنها الحرب العالمية الثانية، وبالخصوص على ضوء البروز الناهض للأشواق القومية والوطنية النابعة من التوق إلى التحرّر في كثير من مناطق وجهاتٍ وقارّاتٍ كثيرة كذلك.
هذا ما يفسّر لماذا ظلت العلاقات الثنائية بين البلدان المغاربية محكومة بما كان بين المستعمرين أنفسهم من علاقاتٍ ومصالح، فلم يحدُث أن برزت عداوة استثنائية ولا منافساتٌ تستمدّ روحها من الخصوصيات الوطنية المُشَرْعَنة بالتاريخ والإيديولوجيا، ولم يحدُث أن تطوّرت العداوة، ضمنية ومفترضة، إلى استراتيجية خاصة مبنية على المنافسة، أو على هواجس الهيمنة الإقليمية والمعاداة الإيديولوجية، أو خضوعا لنوازع الذوات الطامحة لتحقيق الزعامة ومصادرة السيادة. وعليه، بمجرّد ما أن استقرّت الأوضاع نسبيا للسلطة الجديدة، حتى برزت رؤوس المخطّطات الإقليمية، تلك التي حلمت بها النخب المغاربية في الفترة الاستعمارية، إلى الوجود، مصحوبة بمطامح شتّى، أساسها الانحياز الإيديولوجي والسعي من خلال التحالف الإقليمي إلى تغيير الأوضاع، بالقوة والعنف، التي كانت تبدو، في المسار العام للتطوّر التاريخي المرتجى، غير مقبولة في نظر القيادات المحلية، أو معاكسة للتطوّر الإقليمي، أو ضرورية لضمان بسط النفوذ السياسي والعسكري لبعض الدول خلال سنوات الحرب الباردة.
سلسلة "أسطورية" من الصراعات حَوَّلَها الإعلام المكتوب والمسموع والمرئي في البلدان المغاربية إلى مشاحناتٍ لم تهدأ، ولو أنها خفتت حسب الطبيعة ونوعية العلاقة
ولا يمكن إرجاع الصراع الذي نشب بين مختلف البلدان المغاربية، بتفاوت الدرجات والمراحل، فقط إلى التركة الاستعمارية التي كرّست الفرقة وأذْكَت نار التعارضات الممكنة، بل يتعلق الأمر، أيضا، في تقديري الخاص، بثلاثة عوامل. أولها وأبرزها: منعكسات التناقض السياسي والإيديولوجي الذي برّرته مرحلة النهوض القومي في المشرق العربي، فتداعت أو انتشرت مبرّراته العامة في شمال أفريقيا، وهو الذي طرح في أفق التحرّر العام، أول ما طرح، للنقاش العمومي (يجب أن يفهم كنقاش خاص بين ممثلي النخب المسيطرة على مقاليد الأمور بسبب الشرعية التاريخية أو النضالية) طبيعة النظام السياسي في مقابل الثورة الاجتماعية، كما طرح الإصلاح في مقابل الاستبداد، والجمهورية في مقابل الملكية... إلخ والاستقلال الشكلي (المنقوص) في مقابل التحرّر الشامل من الهيمنة الأجنبية... من دون أن ننسى ما كان للقضية الفلسطينية، في هذا الإطار، من تأثير واضح من حيث الشعارات والمهام، بحكم مركزية الصراع ضد العدو الصهيوني المحتل. وخلاصة الوضعية هنا أنه بمرور الظرف التاريخي الاستثنائي الذي ازدهرت فيه الفكرة الوطنية الداعية إلى الوحدة المغاربية، ولعلها أعقبت "الحَمِيَّة" الاستقلالية مباشرة بعد رحيل المحتل، حتى ظهر ما لم يكن في الحسبان، أو كان في الحسبان "فكرة" ضمنية صامتة لم تنكشف ضرورتها، من حيث التنظير والممارسة، إلا في سياق العوامل الظرفية المتقلبة والسياسات الخاصة التي قَلْقَلَت المنطقة فترات مختلفة من تطورها التاريخي الحديث.
أما العامل الثاني فتأسّس على هذا وله علاقة به وبطبيعة "الثروة الوطنية" التي احتكرها الأجنبي من قبل، فأصبح لها، في بعض البلدان المغاربية، فعل السحر "البترولي" في بناء منظومة من الاعتقادات السياسية والإيديولوجية الداعية إلى التحرّر، أو إلى الثورة الوطنية، إلى جانب نوع من العزّة الوطنية المُنَافِحَة عن الخصوصيات القومية، وعن المجد التاريخي التليد والبطولات الكفاحية في مواجهة الأعداء، إلى جانب التفسير أو الفهم "القويم" (ذي المعنى الاشتراكي كما أرادوا له) لعلاقة الإنسان المغاربي بالإسلام، وأسلوب التأويل المذهبي الذي ارتكز عليه (أقصد: المذهب المالكي في جميع البلدان المغاربية)، مع هذه الإضافة التي تبدو مفهومة في مراحل الصراع: أي الوقوف ضد "الوهابية" السعودية (قبل نشوء الحركات الإسلامية الحديثة) لاستباق التطرّف والتبشير بالوسطية التي غالبا ما كانت تبرّر الدور القيادي للزعامة على رأس الدولة الهرمية. ومن المفروض أن نقول هنا، ولو أنه ينطبق على مراحل سابقة من التاريخ الإقليمي المغاربي، إن بعض دوله أرادت، من خلال ذلك كله، بناء نوع من الزعامة السياسية الإقليمية انطلاقا من منجز البناء الاقتصادي الذي أرْسَتْه في بلدانها وأرادت به، في الوقت نفسه، تقوية نفوذها في التوسّع وبناء القوة الإقليمية الضاربة (النموذج الناصري في المشرق العربي).
لا يمكن إرجاع الصراع الذي نشب بين مختلف البلدان المغاربية، بتفاوت الدرجات والمراحل، فقط إلى التركة الاستعمارية التي كرّست الفرقة
لا مناص من القول إن الأسس العامة التي وُضعت لتحقيق الهيمنة والسيادة، بناء على القوة العسكرية والاقتصادية، فضلا عن الهواجس الشخصية المرتبطة بالنفوذ والزعامة، لم تتغيّر، رغم فترات السلم والدعوة الوحدوية الوهمية، منذ، إذا شئنا التسمية والتشخيص، حرب الرمال بين المغرب والجزائر عام 1963. لقد أسقطت الثورة الجزائرية سلطة الحكومة الجزائرية المؤقتة، (شكّلت في القاهرة عام 1958 بقيادة فرحات عباس)، وأوجبت سيطرة المؤسّسة العسكرية بالشرعية التاريخية النضالية. ولعلها بذلك، انطلاقا من الحدود التي رسمها الاستعمار في خيالات الساسة الجدد، أرادت أن ترسم أفقا مختلفا للمطامح والمصالح التي أوجدها الاستقلال، ثم شرّعت لمسألة جوهرية لم تتخلّ عنها مطلقا: أعني بذلك أن البناء العسكري هو أساس الاستقرار والتطور، ولا يمكن للديمقراطية الغربية ولا (لـ"برهان الصدّيقين كواجب الوجود"، ابن سينا) أن يفتح للزعامة طريق الهيمنة والسيادة إلا بذلك. وعلى هذا المنوال، سارت ليبيا في علاقتها بتونس والمغرب، وهو ما قام به المغرب في علاقته بموريتانيا والجزائر أيضا، ومثل ذلك طبّقته الجزائر مع تونس على حدودها الشمالية الشرقية... إلخ. سلسلة "أسطورية" من الصراعات حَوَّلَها الإعلام المكتوب والمسموع والمرئي في مختلف البلدان المغاربية إلى مشاحناتٍ لم تهدأ، ولو أنها خفتت حسب الطبيعة ونوعية العلاقة، إلى يوم الناس هذا.
العامل الثالث أجده في الانحياز الإيديولوجي للقوى الكبرى بعد فشل المشاريع الوطنية القائمة على الاستقلال الذاتي في عالم متغيّر لا يضمن تقدّمه إلا بالأحلاف الاقتصادية والعسكرية وسواها. ولم يكن ها الانحياز بعيدا عن الصراع والتناقض، بل هو أساسه ومضمونه (المغرب -أميركا، الجزائر - روسيا)" بين المغرب وليبيا منذ 1971، بين المغرب والجزائر منذ 1975، بين المغرب وموريتانيا منذ 1960، بين ليبيا وتونس منذ الثمانينات... إلخ). وهو ما كان يعني، في جميع السياسات المتّبعة وأحوالها الخاصة والعامة، وكذا في عُرف من يطبقونها أو يُحَرِّضون عليها، أنَّ التحالف ظَرْفِيٌّ دائما والصراع دَهْرِيٌّ أبدا. أو إذا شئنا أن نشرح هذه القاعدة بتعبير مختلف: التوافق تكتيك والتخالف (أو الخلاف) استراتيجية. لهذه القاعدة أهدافها التي لم تتبدّل: يكون التحالف الثنائي أو الشامل بين البلدان المغاربية للتغطية الظرفية، أو المديدة كذلك، على الانقسام التاريخي الموروث من حقبٍ سالفة، وارتكازا على مصالح إقليمية، أو أحلاف دولية، مسنودةٍ بالرغبة في التفوّق والهيمنة. أما الصراع فثابتٌ وقوامه: الشعور المُعَمَّم بالخصوصيات المحلية التي تشكّل لحمة الشعور الوطني الخاص (في مقابل الشعور القومي) والمصلحة الوطنية البرغماتية المبنية على تنافسية اقتصادية وسياسية وثقافية تستهدف الإلغاء والإقصاء (في مقابل الوعي الديمقراطي بأهمية التكامل والتجانس)، ثم أخيرا: محصول التاريخ الوطني الذي يتحوّل، من خلال التأويل الإيديولوجي أو الديني أو السياسي الظرفي كذلك، إلى "أساطير" غالبا ما تصلح لتبرير الأحقّية أو السبق أو المجد التليد أو الشهداء أو الاستبداد.