استثمارات الحرب في اليمن
في الحرب، تنمو أشكال الاقتصادات الطارئة خارج الإطار القانوني والسيادي لاقتصاد الدولة الوطنية، بحيث تتنوّع من اقتصادات الحرب، على اختلاف أشكالها، إلى الاستثمارات المحلية والوافدة والتي جرى توطينها، إلى جانب التي جرى تهريبها إلى الخارج، فباعتبارها استثمارا متعدّد الأغراض للقوى الصاعدة للسلطة، فإن الحرب تغذّي طرقها لتضمن مكاسبها واستدامتها كرئات اقتصادية بديلة. وفي اليمن، أدارت سلطات الحرب طرق الاستثمار لصالحها، بمن في ذلك شركاؤها وحلفاؤها، إذ إن موقعها، بوصفها سلطة أمر واقع، مكّنها من شرعنة هذه الاستثمارات، أكانت تلك المحلية في المناطق الخاضعة لها التي تتبعها أو القوى المتحالفة معها، أو الاستثمارات الأجنبية الموجّهة، حيث عقدت تفاهمات ومرّرت صفقات لاستغلال قطاعات الدولة إلى جانب تأهيل البنية التحتية كالموانئ. في المقابل، عمدت أطراف متعدّدة لتوظيف علاقتها بسلطات الحرب لتنمية استثماراتٍ متعدّدة المجالات، إلى جانب فرض ترتيباتٍ مستقبليةٍ تخدم مصالحها.
للاستثمار الاقتصادي أهمية استراتيجية في دعم الاقتصاد الوطني، بما في ذلك دفع عملية التنمية المستدامة، إذ إن تدفق عائدات الاستثمارات يُفضي إلى تنويع موارد الدولة، وكذلك رفع دخل الفرد، ما يعني تحسين شروط الحياة بالنسبة للمواطنين بشكل عام. ولذلك يقتضي الاستثمار الاقتصادي بيئة ملائمة من الاستقرار السياسي والأمني إلى سياسات اقتصادية وطنية توجّه عملية الاستثمارات بما يخدم المجتمع المحلي. بيد أن ظروف الحرب في اليمن، وانقسام المؤسّسات الاقتصادية وسياسات سلطات الحرب شكّلت عائقاً لإيجاد بيئة ملائمة للاستثمار، حتى في شروطها الدنيا، فمن جهةٍ قيدت سلطات الحرب الاستثمارات المحلية، وذلك بفرضها ضرائب طائلة على عملية الاستيراد والتصدير، إلى جانب رفع الرسوم الجمركية، وكذلك أشكال الإتاوات من المجهود الحربي إلى الحماية والتضييق من سلطات الحرب، فضلاً عن القيود التي فرضها المتدخّلون الإقليميون على الصناعات الوطنية، والذي أفضى إلى إغلاق شركات في اليمن، ومغادرتها إلى دول المنطقة، بما في ذلك الدول المتدخلة، ما يعني تهجير الرأسمال الوطني. إضافة إلى أن طبقات أغنياء الحرب هرّبت استثماراتهم إلى خارج اليمن، ما أضرّ الحركة الاقتصادية.
وإذا كانت هذه العوائق قد أضرّت الاستثمار المحلي، عدا بالطبع المحمية من سلطات الحرب والتابعة لها، فإن تحدّيات الاستثمار الأجنبي أكثر تعقيداً، إذ إن عدم وجود سلطة وطنية تمتلك قرارها السياسي، بحيث تشرف على الاستثمارات الأجنبية، جعلها تعكس مصالح المستثمرين وسلطات الحرب. كما أن تقويض السلطة التشريعية وانقسامها بين طرفي الحرب أدّى إلى غياب قوة ضاغطة تراقب الاستثمارات وعلاقتها بالسلطة، بحيث قد تعكس هذه الاستثمارات أجنداتٍ تؤثر على مستقبل اليمن، وكذلك عدم وجود قانون يمني ينظّم عملية الاستثمارات بأنواعها، إلى جانب غياب سياسات اقتصادية وطنية موحّدة تقيم هذه الاستثمارات واتفاقياتها ومداها الزمني، وعدم تعارضها مع سيادة اليمن، وإمكانية أن تخدم، على المدى البعيد، مصالح المواطنين، بما في ذلك تحسين شروط الحياة، وليس مصالح المتحاربين والمستغلين. إلا أن سلطات الحرب وداعميها وظّفت موقعها في السلطة لتنويع مصادرها بعد معاركها في الصراع على الثروات، وذلك لتحسين مدخولاتها من العملة الصعبة، تحت لافتة تنمية الاستثمار.
عدم امتلاك المجلس الرئاسي قراره السيادي أخضعه لإرادة داعميه، إلى جانب أن تعدّد القوى في إطار سلطة المجلس عكس تنازع القرار الاقتصادي
عكست حركة الاستثمارات المحلية في المناطق المحرّرة نفوذ القوى الفاعلة على الأرض والمتحالفين معها، فإلى جانب انخراطها في معظم الاستثمارات الكبرى شريكا أو مالكا أو حاميا، فإنها، وبحسب هيمنتها ونفوذها وجغرافيتها، حدّدت جغرافية المستثمرين المحليين. ففي مقابل تضييقها على الاستثمارات من خارج مناطقها الجغرافية، كالمجلس الانتقالي الجنوبي الذي قيّد نشاط الاستثمارات القادمة من شمال اليمن، حيث أغلقت مطاعم عديدة ومحلات تجارية من مطعم الشروق في مدينة عدن إلى مول شمسان، فتحت المجالات للاستثمارات القادمة من مناطق قيادات المجلس. وإلى جانب الانفلات الأمني الذي يقيّد حركة الاستثمارات المحلية، فإن منطق التحيزات الجهوية واستغلال السلطة يحضر أيضا في مناطق أخرى كمدينة تعز، وإن خضعت الاستثمارات لهيمنة القوى السياسية في المدينة. وإذا كانت هذه الانقسامات السلطوية إلى جانب الانفلات الأمني قد قيدت الاستثمارات المحلية، فإن الإعتراف الدولي، وأيضا دعم حلفائها، مكّن السلطة الشرعية سابقاً والمجلس الرئاسي في الوقت الحالي من استجلاب استثمارات أجنبية بصفتها سلطةً معترفا بها. ومع أن عقودها وآليتها لا تخضعان للرقابة بحيث تفتقر للشفافية، فإن هناك عوامل أكثر خطورة تؤثر على طبيعة الاستثمارات، إذ إن عدم امتلاك المجلس الرئاسي قراره السيادي أخضعه لإرادة داعميه، إلى جانب أن تعدّد القوى في إطار سلطة المجلس عكس تنازع القرار الاقتصادي على المستوى المحلي بين الفاعلين وتفضيلاتهم في منح امتيازات الاستثمارات لحلفائهم. وإذا كانت الشركات الأجنبية قد هيمنت على القطاع النفطي، بحيث أصبحت دولة داخل دولة، فإن السلطة التنفيذية، ممثلة بالحكومة، فشلت في فرض سلطتها بوصفها جهة سيادية تشرف على هذا القطاع، حيث نقلت شركات عقودها إلى شركات أخرى من دون علمها، ومن القطاع النفطي إلى الغاز، تسيطر الشركات الأجنبية على الاستثمار.
ومن جهة أخرى، فشل المجلس الرئاسي في التحوّل إلى سلطة تحتفظ بقدر من الصلاحيات جعلها كيانا شكليا في الاتفاقيات والتفاهمات التي تعقدها مع حلفائها الإقليميين، كما أن عدم وضوح طرق تمويل هذه الاستثمارات ما بين المنح والقروض جعلها محطّ فساد إلى جانب استغلال المتدخلين لطبيعتها وتوظيفها لخدمة أجنداتهم. وإذا كان الامتياز السيادي الناجم عن التدخل العسكري لدعم السلطة الشرعية سابقا ظلّ الإطار العام الذي انبثقت عنه امتيازات فرضها المتدخلون، فإن تشكيل سلطةٍ توافقية من أطراف متعدّدين في حالة المجلس الرئاسي منح المتدخلين من السعودية إلى الإمارات امتيازات مطلقة.
انضواء وكلاء الإمارات المتعدّدين في سلطة المجلس منحها غطاءً سياسيا لمراكمة استثماراتها من عقد شراكات محلية مع هذه القوى في مناطقها الخاصة
تتحوّل الاستثمارات الأجنبية إلى أجندة سياسية موجّهة في حال غياب الرقابة وخضوع السلطة لهيمنة الخارج. وإذا كان التدخّل الإقليمي في اليمن مرّ بتحوّلات عديدة من إدارة العملية العسكرية ومشاركة قواتهم على الأرض إلى فرض ترتيباتٍ في الوقت الحالي، فإنها اتخذت شكل استثماراتٍ وتمويل مشاريع في قطاعات الدولة وبنياتها التحتية، إلى الجانب الأمني.
وفي حين ركّزت السعودية على الترتيبات الأمنية لتأمين حدودها، مقابل فرض وضع خاص بها في مدينة المهرة، فإن للإمارات أيضا ترتيبات تتناسب مع مصالحها في هذه المرحلة. وفيما شكّلت السيطرة على الموانئ اليمنية وإيجاد مركز نفوذها يمكّنها من الإشراف عليها ركيزة تدخلها، وإن أدخلها في صدامٍ غير مباشر مع سلطة الرئيس عبد ربه منصور هادي سابقا، فإنه لم يقيّد حضورها، إذ وظّفت سلطة وكيلها في جنوب اليمن، المجلس الانتقالي، لفرض استثماراتٍ تركّزت في جزيرة سقطرى التي تشكّل الاستثمارات الإماراتية قوة سياسية رئيسة في الجزيرة. ومع تشكيل المجلس الرئاسي، ضاعفت الإمارات من نفوذها في اليمن، بحيث تنوّعت الترتيبات والامتيازات التي تحصلت عليها، إذ إن انضواء وكلائها المتعدّدين في سلطة المجلس منحها غطاءً سياسيا لمراكمة استثماراتها من عقد شراكات محلية مع هذه القوى في مناطقها الخاصة، سواء في مدينة المخا، أو في المناطق الجنوبية، إلى فرض ترتيبات أمنية واقتصادية عامة مع الحكومة. فإضافة إلى توقيع اتفاقية أمنية رسمية في إطار مكافحة الإرهاب، وهو ما يمكّن الإمارات من الإشراف على القوى الأمنية وتدريبها، فإنها عقدت صفقةً مع السلطة المحلية في مدينة عدن، تقضي بتزويدها بكاميرات مراقبة لشوارع المدينة وأحيائها، فضلا عن دخول الإمارات باستثمارات اقتصادية استراتيجية تمثلت بعقد اتفاقية مع الجانب الحكومي في قطاع الإتصالات لصالح شركة إماراتية، بيد أن الأخطر هو توقيع عقد امتياز إنشاء (وتشغيل) ميناء "قشن"، الذي يأتي توقيعه في ظل هيمنة الإمارات والسعودية على قرار المجلس الرئاسي، ما يعني فرض ترتيبات عبر استغلال سلطة المتدخّلين، بحيث يمنح الإمارات مركز نفوذ استراتيجيا في منطقة جغرافية مهمة كميناء قشن المطلّ على بحر العرب، كما يمنح الإمارات وجودا في مدينة المهرة إلى جانب النفوذ السعودي، وبالتماسّ مع النفوذ العماني، وهو ما يجعل من الإمارات سلطة موازية للقوى الأخرى. ومن اتفاقية بناء (وتشغيل) ميناء قشن الذي تتصاعد أهميته بوصفه ميناء تصدير استراتيجي إلى نفوذها في جزيرة سقطرى، وفي الساحل الغربي، وقبلها باب المندب، فإن الإمارات تعود إلى اليمن من بوابة أخرى، ولحماية ترتيباتها الاقتصادية واستثماراتها، فإنها ضاعفت وجودها الرسمي بتعيين محمد الزعابي سفيرها لليمن، وهو أول سفير لدولة أجنبية يتلقى اعتماده من مدينة عدن. وسواء باشر عمله في عدن أم لا، فالأكيد أن الإمارات أرادت منح تدخّلها شكلا جديدا لحماية نفوذها، وتثبيت نفسها لاعبا رئيسيا في مرحلة حكم وكلائها، إلى جانب السعودية.
أخضعت جماعة الحوثي الاستثمارات في المناطق الخاضعة لها لقيودها واشتراطاتها، وأيضاً لضرائبها وإتاواتها
كما تعكس جماعة الحوثي من خلال أيديولوجيتها وبنيتها وهرميتها تمثلاتها في السلطة، فإنها تعكس أيضا شكل هذه الاستثمارات وتحيزاتها، ومن ثم المساحة التي تتحرّك بها، ففي حين أخضعت الجماعة الاستثمارات في المناطق الخاضعة لها لقيودها واشتراطاتها، وأيضا لضرائبها وإتاواتها، ما أدى إلى إغلاق عدد من الشركات الوطنية في مناطقها، وإفلاس أخرى، فإنها أخضعت الاستثمارت المحلية لسياساتها الموجهة في السيطرة على الحياة الاقتصادية، بما في ذلك مصادرة أموال بعض الشركات، بتهم سياسية لصالح زعاماتها، مقابل دعم مستثمرين صاعدين، سواء من القوى الاجتماعية المتحالفة معها، أو من قياداتها والطبقة التجارية التي تمثل نطاقاتها المذهبية، إلى جانب استثمار أجنحة الجماعة وقياداتها في قطاعات الدولة، وكذلك تحويلها ومرافقها وأراضيها إلى محطّ استثمارات متنوّعة.
وإذا كانت سلطة جماعة الحوثي فرضت نفسها طرفا وحيدا يدير الاستثمارات الاقتصادية في المناطق الخاضعة لها، بعكس الوضع في المناطق المحرّرة لتعدّد القوى المنضوية في المجلس الرئاسي وإدارتها قنوات استثمارات مستقلة مع حلفائها، فإن الجماعة وظفته بما يخدم مصالحها، حيث خضعت الاستثمارات لسلطتها، بما في ذلك استفادتها من عائداتها وحركة التجارة حتى مع خصومها، حيث ظلّت الأسواق مفتوحة أمام البضائع السعودية والإماراتية، فيما ظل حلفاؤها من إيران وسورية حاضرين من خلال مقاولي الباطن.
ومن جهة أخرى، تحضر عُمان في المناطق الخاضعة للجماعة لتشكّل مظهرا آخر لامتيازات الفاعلين الإقليميين في اليمن، إذ إن لتدخلها الوساطي في الصراع اليمني وعلاقتها الاستراتيجية بجماعة الحوثي امتيازاته واستثماراته أيضاً، مع تحوّل المناطق الخاضعة للجماعة إلى سوق للبضائع العُمانية، وقيام استثمارات صغيرة سواء من تجار عُمانيين أو مقاولين من الباطن. من خلال شركة عُمانية استحوذت على شركة إم تي إن.
وإلى جانب الاستثمار في مناطق الجماعة، كيّفت السلطنة ترتيبات اقتصادية مع الحكومة المعترف بها في قطاع النقل البرّي ... ومن ثم أبعد من الحرب التي تحولت إلى استثمار بالنسبة للفرقاء المحليين، تلتقي خطوط التدخّلات الإقليمية السياسية بشكلها المباشر وغير المباشر بترتيبات المرحلة بامتيازاتها واستثماراتها وصفقاتها لصالح مقاولين متعدّدين.