ازدواجية معايير وقيم
أعلنت وزارة الدفاع الروسية، 6 فبراير/ شباط الحالي أن عشر وحدات من الجيش الروسي تضم أكثر من 300 جندي، تشارك في إزالة الأنقاض وفي عمليات البحث والإنقاذ في سورية في أعقاب الزلزال المدمر. وقالت في بيان لها إن "وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو أصدر تعليماته لقائد القوات الروسية في سورية بتقديم المساعدة". وروسيا هي القوة الأجنبية المتعاملة مع نظام بشّار الأسد.
المفاجئ هنا أن شويغو نفسه هو الذي يصدر التعليمات بقصف المدن الأوكرانية بوحشية، حيث يسقط المئات من الضحايا من نساء وأطفال. إذ كيف لعاقل أن يقتنع بأن الطائرتين الروسيتين اللتين هبطتا في مطار اللاذقية محمّلتين بمساعدات إغاثة إلى المنكوبين من الزلزال، بحسب ما ذكر مدير الطيران المدني السوري، باسم منصور، كانتا، في وقت سابق، تحملان مئات الأطنان من المواد المتفجّرة لرميها على البنى التحتية الأوكرانية، بغرض منع الأوكرانيين من التدفئة في البرد القارس وتشريد الملايين. وفي هذا ازدواجية واضحة في المعايير والقيم وتصنيف الناس بين عدو وحليف عند القيادة الروسية. لهذا يرى كثيرون أن تلك المعايير والقيم أصبحت وجهة نظر تختلف بحسب مصالح الدول، ففي سورية، حيث وجد الروسي في النظام حليفًا له، كي يثبت قواعده العسكرية البحرية على البحر الأبيض المتوسط في طرطوس، وبناء أضخم قاعدة عسكرية جوية في حميميم، كان الدعم الإنساني للمنكوبين. أما في أوكرانيا التي ما فتئت القيادة الروسية تطلق تعابير عنصريةً على المدافعين عن أرضهم من أبناء الشعب، مثل أنهم نازيون أو قوميون جدد، اجتاحتهم الآلة العسكرية الروسية، ودخلت الأراضي الأوكرانية بغرض تركيعهم ووضعهم تحت وصاية نفوذها.
لا ينطبق الأمر فقط على روسيا التي أظهرت الازدواجية في المعايير، بل أيضًا على الولايات المتحدة التي تفرض خناقا على تركيا بسبب انحراف الرئيس التركي أردوغان عن مسار السياسة التاريخية لتركيا إلى جانب الولايات المتحدة والدول الغربية. إذ ذكر البيت الأبيض أن الرئيس الأميركي، جو بايدن، أجرى اتصالًا مع أردوغان بعد الكارثة، لتقديم التعازي ومعاودة التأكيد على استعداد واشنطن للمساعدة في جهود الإنقاذ. وفي المقابل، لم يتصل الرئيس بايدن بالأسد لتقديم التعازي أو لتقديم المساعدات أو حتى لوقف مفاعيل عقوبات قانون قيصر الذي فرضته إدارة سلفه دونالد ترامب على سورية؛ فكيف تستطيع الأخيرة مواجهة تحديات ما بعد الكارثة؟ يعود الأمر هنا إلى قرار الحكومة الأميركية بعدم السماح بالعودة إلى التطبيع مع النظام السوري، مهما كانت الأسباب والدوافع، حتى لو كانت كارثة طبيعية بحجم الزلزال الذي ضرب شمال سورية وغربها.
يكاد لا يمرّ تصريح لقيادات الدول، إلا ويكون بناء الإنسانية هدف رؤيتهم المستقبلية
نجد هذه الازدواجية في دول من المفترض أنها تمثّل حضارات هذا القرن، الذي يتصف بتقدّمه ونشر القيم الإنسانية، وإرساء السلام الدولي، إذ يكاد لا يمرّ تصريح لقيادات الدول، إلا ويكون بناء الإنسانية هدف رؤيتهم المستقبلية. لكن السؤال هنا: كيف تستطيع أي حضارةٍ أن تقدّم مساعدات إنسانية من جهة، وتبيد وتقضي على البشر من جهة أخرى؟
كتب عالم النفس فرويد، في كتابه "قلق في الحضارة"، إن الوصول إلى السعادة مستحيل، معتبرًا أنه مهما تقدّم الإنسان وارتقى في مدارج الحضارة، لن يكون قادرًا على الوصول إلى السعادة. والسبب بالنسبة إليه أن ما تحمله الحضارة البشرية من معايير إنسانية وقيم أخلاقية تشكّل المثل العليا، ليس سوى قشرة رقيقة تغلّف العواصف والشهوات والأنانية البشرية والرغبة في العنف عند الإنسان.
انكسرت هذه القشرة الرقيقة عدة مرّات في التاريخ، ولعلّ الحربين العالميتين، الأولى والثانية، والحرب في عصرنا المعاصر من احتلال دول وإسقاط أنظمة وتجويع البشر وتشريدهم، تحت عناوين مختلفة منها الدفاع عن مصالح البلاد القومية، أو نشر الديمقراطية في العالم، أو الترويع بالحرب النووية كما يطلق القادة الروس لوقف الدعم الغربي المستمر إلى كييف، جميعها تفجيرات أثبتت هشاشة البنية الحضارية للإنسان. لهذا، الإنسان المتعاطف الذي يتوق إلى حب مساعدة الآخر، كما شاهدنا مع الزعماء الذين سارعوا لتقديم العون والمساعدة إلى منكوبي دول الزلزال، هذا كله ليس إلا غطاءً يقمع الهيجان الفردي للوصول إلى الرغائب الأكثر عدوانيةً عند الإنسان التي إن تحرّكت وانكسرت قتلت البشر ودمّرت الحجر. تمامًا كما قشرة الأرض الرقيقة، التي تخفي وراءها تحرّكات للصفائح التكتونية، والتي في حال انكسرت أحدثت الزلازل المدمّرة التي يذهب الآلاف ضحايا تحرّكاتها.