احتجاجات معزولة في تونس أم تدرّب على الانتفاض؟
تقلّل السلطات التونسية من حجم الاحتجاجات التي وقعت في الأيام القليلة الفارطة، وقد واجهتها بكثير من العنف والاعتقالات. وكعادتها، قدّمت وزارة الداخلية قراءة لهذه الاحتجاجات تقوم على نظرية المؤامرة. والسردية غدت معروفة مسبقا، أنها ألقت القبض على مشاغبين واعترف بعض منهم بأنهم تلقوا أموالا من جهة سياسية ما، كما تصدر بيانات في الحين غدت محل سخرية تعلن فيها عن حجز مواد خطيرة، مثل مقصّات أظافر وشوكات وملاعق وولاعات صغيرة.
في مظاهرات قرية مرناق وحدها بداية الأسبوع الفارط، تزامنا مع احتجاجات في كل من دوار هيشر ومنوبة وأحياء وقرى تحيط بالعاصمة، اعتُقل 15 شابا. وامتدّت "العدوى" إلى مدن أخرى. ينتظر الشباب هبوط الليل ليخرجوا في مظاهراتٍ سرعان ما ينضمّ إليها الأهالي من أطفال ونساء وشيوخ. والشعارات واحدة هذه المرّة، التنديد بغلاء الأسعار وفقدانها.
التجاوزات الخطيرة في حق بعض المواطنين كانت قادح الاحتجاج، وقد أدت إلى موت بعض من احتجزتهم قوات الأمن، كما الشاب الذي حاصرته قوى الجمارك وسط العاصمة، وأطلقت عليه الرصاص فأردته قتيلا، والبائع المتجول الذي منعته قوى الأمن من عرض بضاعته على الرصيف، وعنّفته حين تمنع عن تنفيذ أوامرها فأضرم النار في جسده، ثم توفّي جرّاء إصاباته البليغة. وكل هؤلاء الضحايا من أحياء فقيرة، حيث تتشكل عصبة جماعات الحي والقرابة والجوار. يهرع هؤلاء في أحيائهم إلى مناصرة عائلة الضحايا منهم، وعادة ما تكون قوات الأمن مرمى حجارة غضبهم.
السطات دوما لا تأبه بالاحتجاجات، أو بصفة أدقّ لا تعيرها ما يكفيها من تحسّب وحذر
ليست هذه الاحتجاجات الأولى، وقد عانت من ضغطها كل الحكومات السابقة طوال العشرية الفارطة. ومع مجيء الرئيس قيس سعيّد شهدت تونس هدنة مؤقتة، وانتظر المواطنون الذين خرجوا ذات ليلة يهتفون باسمه أن يحسّن أوضاعهم المعيشية، غير أن شيئا من هذا لم يحدث، بل ارتفعت الأسعار وتضاعفت علاوة على ندرة السلع والمواد. وتقول تعاليق ساخرة في تدوينات شعب فيسبوك التونسي "كنا سابقا نسأل عن سعر البضاعة، أما الآن فنسأل عن توفرها من عدمه".
لا يشبه احتجاجٌ آخر، حتى وإن كانت الأسباب نفسها وراءه. ها هو الشاب محمد الدريدي يضرم النار في جسده، ليموت احتراقا. تنقل مواقع التواصل الاجتماعي احتراقه، ولكن لا هبة كبرى انتصرت له، عدا احتجاجات محدودة لبعض شباب الحي الفقير الذي يسكنه. طمس الإعلام الميتة الشنيعة، على خلاف قضايا أخرى ينفخ فيها ويصنع منها حدثا. الوقائع نفسها التي اندلعت على إثرها الثورة التونسية قبل أكثر من عشر سنوات تُعاد حرفيا، لكن النتائج ليست هي ذاتها.
تفيدنا ذاكرة الاحتجاجات بأن السطات دوما لا تأبه بها، أو بصفة أدقّ لا تعيرها ما يكفيها من تحسّب وحذر. لقد تغافل عنها بن علي، وكذلك فعلت حكومات ما بعد الثورة، غير أن الثمن الذي دفع في الحالتين كان باهظا، فإذا كان بن علي قد أُكره على مغادرة السلطة ذليلا تحت وقع الثورة وانتفاضات المحتجّين، فإن حكومات ما بعد الثورة قد عوقبت بشدة، وأرغمتها صناديق الاقتراع على الخروج من السلطة. لقد تسلل الرئيس قيس سعيّد من ذلك التململ، الصامت حينا والهادر حينا آخر. فقدت تلك الجماهير المحتجّة الثقة في حكمهم، حين أخفق في حل قضاياهم، أو على الأقل تفهم خيباتهم وأوجاعهم.
الصمت الرهيب الذي يلف المجتمع التونسي حاليا ليس علامة رضا
ها هي السلطة في تونس حاليا تعيد الأخطاء نفسها، بل قد ترتكب قريبا ما هو أبشع، حين بادرت إلى التصدي للشباب المحتجّ، وإيقاف بعض منهم، ولفقت له تهما جاهزة باطلا. قد تنجح السلطة الحالية في تجريم الاحتجاج، وقد كان سعيّد يشيد به حتى بعد توليه الرئاسة، حين دعا الشباب المحتج إلى التوجه إلى القصبة (حيث مقر رئاسة الحكومة) ودحر الحكومة، وكان يقصد حكومة هشام المشيشي الذي أقاله لاحقا ليلة الانقلاب. ولا تنسى ذاكرة المحتجين شيئا. .. كلما ارتكبت السلطة الأخطاء في مواجهة الاحتجاج كبر غضب هؤلاء. والغضب لا يعبّر عن نفسه الآن وهنا، ولكنه يظل يعتمل ويراكم حممه في خزّان بعيد، حتى إذا توفر مناخ الانفجار كان بارودا عاصفا.
لم تندلع عواصف خريف الغضب التونسي هذه المرّة بعد، ولكن البلاد ستعبر، من دون تردّد، فصلا لا يمكن إلا أن يربك السلطة، وسيدفعها إلى ارتكاب مزيد من الحماقات: ليس للسلطة أي حلول، حتى التي لا تكلف شيئا: اعتذار أو توضيح، فضلا عن إجراءات تحلّ المشكلات المتراكمة: غلاء الأسعار، ندرة المواد، غرق عشرات المهاجرين بين حين وآخر.
الصمت الرهيب الذي يلف المجتمع التونسي حاليا، على حد تقدير عالم الاجتماع الفرنسي فانسان جسار (Geisser Vincent) ليس علامة رضا.