اتفاق فلسطيني مرحلي
تتواصل الجهود لإنهاء الانقسام الفلسطيني منذ أكثر من 17 سنة، من دون أن تحقق نتيجةً كبرى أو اختراقاً. وربّما باستثناء التوافق بين التنظيمَين الفلسطينيَّين الكبيرَين، حركتي حماس وفتح، على "حكومة وفاق وطني" وهي حكومة رامي الحمد لله الأولى، فإنّ تقدماً مهمّاً لم يحدث في الملفّ الفلسطيني الداخلي. ورغم ذلك، لم تقد حكومة الوفاق إلى وفاق حقيقي، إذ سرعان ما عاد الانقسام إلى عاداته القديمة بعد محاولة تفجير مركب قيادة السلطة خلال زيارتها غزّة، وتعثّرت حكومة الوفاق، ولم تعد حركة حماس تتعامل معها بوصفها حكومةً، ولم تعمل على "تمكينها" في القطاع مدخلاً لدمج مؤسّسات السلطة وأجهزتها في الضفّة الغربية وقطاع غزّة. كان السعي إلى إنجاز اتّفاق تكاملي هدف كلّ جولة حوار جديدة. ومن القاهرة إلى إسطنبول، ومن الدوحة إلى موسكو، ومن بيروت إلى بكّين، لم يحدث شيء حقيقي يطوي الصفحة السوداء في تاريخ العلاقات الوطنية. وفيما يمكن بسهولة تبادل الاتهامات، كما يمكن تبيان جهة التقصير في مرّاتٍ كثيرة، كما يمكن رمي اللوم على جهات خارجية، فالحقيقة أنّ هذا كلّه لا يفيد في التخفيف من واقع الانقسام المرير في الحياة الفلسطينية الداخلية، فالمواطن هو من يدفع فاتورة الانقسام الباهظة، وهو من عليه أن يتحمّل تبعات ما يجري كلّه في الأرض، حتّى حين يكون جرحه نازفاً، وتكون حياته مهدَّدةً، ويتعرّض لحرب إبادةٍ هي الأبشع منذ عقود، فإنّ عليه أن يكون عند حسن ظنّ الانقسام ويقبل به.
صحيح أنّنا بحاجة إلى إنهاء الانقسام، لكنّنا أيضاً بحاجة إلى أن نفكر في كيف يأكل الناس في الحرب
ما زلت أذكر تلك الأجواء التي سبقت أوّل جلسة حوار وطني بعد الانقسام، دعت إليها مصرُ بعيد الحرب على غزّة، في ديسمبر/ كانون الأول من العام 2008، وانتهت في يناير/ كانون الثاني من 2009، واستمرّت 22 يوماً. كان ثمّة فرحة وبشرى تسري في النفوس، خاصّةً بعد أسابيع الحرب المؤلمة التي ارتقى فيها أكثر من ألف شهيد، وأصيب أكثر من أربعة آلاف مواطن. كان ممثّلو بعض الفصائل يجلسون في فندق الديرة في شاطئ مدينة غزّة، كان ثمّة أمل. انتابني إحساس للحظة خلال وجودي في المكان بأنّنا سنخسر كثيراً لو فشلت جولة الحوار. وذهب المفاوضون ولم يأتوا لنا بالمصالحة. حدث بعض التقدّم في بعض القضايا التي مسَّت مستقبل النسيج الاجتماعي مثل تشكيل لجانٍ للمصالحة المجتمعية، وغير ذلك، لكنّ تقدماً حقيقياً لم يحدث. وتواصلت اللقاءات، وانتقلت من عاصمة إلى أخرى وفق الدعوة الموجّهة إلى الفصائل، ولم يحدُث شيء. وفي كلّ مرّة كانت تطير فيها الوفود إلى "عواصم الحوار الفلسطيني"، كان الأمل يتجدّد بأنّنا قد نتحدّث عن الانقسام بلغة الحاضر، وهو ما بات يسبّب خيبات كبيرة للمواطنين عقب فشل كلّ جولة حوار، حتّى انعدم يقينهم بإمكانية تحقيق "المصالحة"، وإنجاز "الوحدة الوطنية". وحين يغيب الأمل وينعدم اليقين بالغد، وتتضاءل الحماسة في انتظار القادم، يعزل المواطن صاحب المصلحة الأكبر بإنهاء الانقسام نفسه عن السياق العام لإنجازه. وهذا ما جرى، حين لم تعد بعض الجولات تلقى أيّ اهتمام من المواطن.
وبيقيني، لم نتعلّم من دروس الفشل والتعثّر، ولم نُجرِ أيَّ مراجعات حقيقية حول سبب عدم إنجاز أيّ تقدّم. ويسهل مرّة أخرى ذكر بعض الأسباب التي لا علاقة لها (مرّة أخرى وفق يقيني) بحقيقة المصلحة الوطنية، لأنّ هذه المصلحة تتطلّب المصالحة، وليس أيَّ شيء آخر، ولأنّ المصلحة الوطنية تعني وضع الاعتبارات كلّها جانباً، والتوقف عن التراشق والاتهام من أجل إنجاز المهمة التي صارت في عيون الناس مستحيلةً لكثرةِ ما نُوقِشت، وكان لسان حال الناس في غزّة يقول إنّنا "ننفخ في قربة مثقوبة"، أيْ لا فائدةَ تُرجى من الجهود المبذولة كلّها. ببساطة لم ننظر في الأسباب الحقيقية كلّها وراء فشل جولات المصالحة.
إذا كانت حرب مدمّرة وإبادة شاملة مستمرّة أكثر من عام، ارتقى فيها 42 ألف شهيد وقرابة مائة ألف جريح، إضافة إلى أكثر من 20 ألف مفقود هم شهداء، وآلاف الأسرى، وتدمير شامل لقطاع غزّة كلّه، حتّى لا يكاد يوجد بيت يصلح للسكن، إلى جانب تدمير أكثر من 500 مدرسة و19 جامعة وكلّية، وإزالة المؤسّسات العامّة والأهلية والخاصّة... إذا كان ذلك كلّه لن يغير في مواقفنا شيئاً، ولن يجعلنا نعيد التفكير في طريقة تفكيرنا، فإنّنا ببساطة نخون الناس الذين ينتظرون الموت. الآن المواطنون في شمال غزّة لا ينتظرون شيئاً، ينتظرون الموت فقط، ويعرفون ألّا شيء إلا إرادة الخالق ستنجيهم من قبضته. إذا كان ذلك كلّه لن يحرّكنا، ولن يجعلنا نفكّر عميقاً في مدى صلاحية ما كنّا نفكّر فيه، حتّى لو كان صواباً، فإنّنا نجازف بأن نرى شعبنا يُباد، وننتظر حتّى تتحقّق معجزة أفكارنا ومواقفنا التي لا نحيد عنها. ليس من الصواب أن تكون حكيماً دائماً، كما ليس من الحكمة أن تكون على صواب. أظنّ أنّنا في زمن نحتاج فيه إلى الحكمة لا الصواب. فالصواب هو ما نعتقده، وهذا حقّ كلّ تنظيم سياسي. ولكنّ الحكمة هي ما تقتضيه المصلحة الوطنية العُليا، التي لا يمكن أن تكون وفق رؤية حزبية، بل تتّفق مع حاجات الناس. لا وطنَ بلا شعبٍ، ولا مصالحة.
يغيب عن النقاش بشأن مستقبل الوحدة الوطنية حاجةُ الناس الأساسية المتمثّلة في وجود إدارة سليمة لحياتهم، تكفل العدالةَ في توزيع المعونات والمساعدات، وتخفّف عنهم أعباء الحرب الدائرة، وتنظر في إدارة حياتهم بعد انتهاء الحرب. تذكّروا أيضاً أنّ ثمّة حرباً بعد الحرب، حرب بناء غزّة وعودة الحياة وإعمار ما خرّبه الاحتلال. وهذه مهمّة شاقّة. الناس في حاجة إلى أن يشعروا على الأقلّ بأنّ حياتهم، رغم الجراح كلّها، هناك من يُفكّر فيها.
تتذكّرون حين أحدث الاتحاد الأوروبي التقاربَ وإزالةَ الحواجز ودمجَ السياسات بين الدول الأعضاء، بعد "الفعل الأوروبي الموحّد" في 1986، وبعد ذلك اتفاقات ماسترخت في 1992. على فكرة، "الانزياح التدريجي" يقوم على أنّ تطبيق سياسة في مجال يعني ضرورة إحداث تغير في سياسة أخرى، وعليه فإنّ الاتفاقات الأوروبية المختلقة شكّلت مرحلياً عمليةً تراكميةً قادت إلى إزالة الحواجز بين دول أوروبا المتناحرة خلال حربَين كونيتَين في النصف الأول من القرن الماضي.
ما أقترحه، أنّ ثمّة ما يمكن تحقيقه في أسوأ الظروف، وثمّة ما هو ضروري وممكن، وما يمكن تأجيله، وثمّة ما هو سهل وبسيط يخدم في تخفيف آلام المرحلة فقط، لكنّه في المدى البعيد سيسهم في التخفيف من أزمات الانقسام الكُبرى. ما أقترحه هو وجود نماذجَ لحلّ الصراع الداخلي ترتكزعلى مصالح الناس الآنية في طريق تحويل هذه النماذج منطلقاتٍ لحلّ الصراع الداخلي برمّته. أيْ إنّ هناك ما يمكن إنجازه بسرعة، ويكون تأثيره كبيراً الآن ولاحقاً. والأساس ألّا يرهن ذلك كلّه بمستقبل السؤال الكبير حول إنهاء الانقسام بالكامل.
ينبغي توفير نماذجَ لحلّ الصراع الفلسطيني ترتكز على مصالح الناس الآنية، في طريق تحويل هذه النماذج منطلقاتٍ لحلّ الصراع برمّته
يبدو هذا الكلام مهمّاً ونحن نُفكّر في المستقبل الفلسطيني عامةً، وفي مجريات جلسة الحوار في القاهرة التي التأمت الأربعاء الماضي. الحوار الوطني برمّته، وفي مراحله كلّها كان ينظر إلى حلّ الخلاف بين التنظيمَين الكبيرَين، ولم ينظر إلى حلّ مشكلات الناس. صحيح أنّ معظم مشكلات الناس في غزّة مردُّها الانقسام وارتداداته، وهذا صحيح مائة في المائة، لكن أيضاً لا يمكن للناس أن تقتنع أنّ مصلحتها لن تتحقّق إلّا بعد أن يتّفق الطرفان، إذ إنّ المنطق أنّ ثمّة مصالح وحاجيات للناس يمكن تلبيتها من دون حلّ المشكلات كلّها. التفكير فيما يحتاج إليه الناس يجب أن يكون أولويةً في البحث عن إحداث تغير جذري في الواقع الفلسطيني، وفي العلاقات الفلسطينية الفلسطينية.
صحيح أنّنا في حاجة إلى إنهاء الانقسام نهائياً، وفي حاجة إلى حكومة مركزية، وفي حاجة إلى وجود "الكلّ" الفلسطيني داخل منظّمة التحرير من أجل تمكين التمثيل الفلسطيني وتقوية مطالبنا السياسية وإنهاء حالة الشرذمة في الموقف السياسي، ولكنّنا أيضاً في حاجة إلى أن نفكر في كيف يأكل الناس في الحرب، وكيف ينامون ويشربون، وأيضاً في كيف يتحرّكون ويعيشون الحرب الأخرى بعد نهاية الحرب.
نحن في حاجة إلى اتفاق وطني مرحلي مؤقّت وسريع، يلامس حياة الناس، خاصّة حول المساعدات، ومعالجة حياتهم في حال وضعتِ الحربُ أوزارها، أو في حال استمرّت.