اتفاق الطائف... تسوية تحتاج تسوية

13 نوفمبر 2022
+ الخط -

تعتبر معظم أطراف السلطة في لبنان أن اتفاق الطائف أنهى مرحلة الحرب الأهلية، وهو يصلح لأن يكون مدخلًا جديًا إلى إنهاء الأزمات التي تضرب عميقًا في الدولة والمجتمع، فالإصلاحات الدستورية التي أقرّها، والتي تمتد لتطاول الميثاق والصيغة، يمكن أن تنقل لبنان من حالة الاقتتال المستمرّ إلى دولة تسير نحو السلام الداخلي، إلا أن المشكلة تتعلق بتوصيف الحرب وفهم ما تلاها من مرحلة سلام عند اللبنانيين عمومًا، وعند السلطة خصوصًا، فتوصيف الحرب وفق اتفاق الطائف الطائفي يُبقي على الحرب من ناحية، أو يحوّلها لتسود على مستوى الهيمنة الطبقية طائفيًا والهيمنة الطائفية طبقيًا من ناحية ثانية. ذلك لأن المتابع لا يحتاج إلى كثير عناء ليكتشف أن الحرب مستمرّة منذ عام 1990 بأشكال مختلفة: أولها، وجود أمراء الحرب على رأس الدولة فترة السلم، فهم من أشعلوا الحرب، وهم من أنهوها، وهم من عفوا عن أنفسهم من دون أية محاسبة. ثانيها، ترك جرح المخطوفين والمفقودين والمخفيين قسرًا مفتوحًا، من دون الكشف عن مصائرهم، سواء في لبنان أو في أقبية النظام السوري. ثالثها، استمرار الشكل الطائفي للدولة الولّادة للحروب. فحتى اتفاق الطائف الذي اقتُرح كبداية علاج للمشكلة الطائفية، تجرى مقاربته بشكل طائفي. هذا ما أظهرته الاجتماعات والتصاريح الداعية إلى التمسّك به، والتي شهدتها بيروت في الشهر الأخير.

في السياق، تُمكن ملاحظة أنه منذ العام 2005، أي بعد 15 عامًا على اتفاق الطائف وإعلان مرحلة السلم المفترض، شرخ الانقسام العمودي/ الطائفي الحاد البلاد إلى نصفين، على الرغم من محاولة خلط الأوراق خلال الانتفاضة، عندما تأمل اللبنانيون ولادة انقسام طبقي اجتماعي حقيقي مقابل الانقسام الطائفي. ولكن، سرعان ما تبخّر هذا الأمل الذي لم يتبلور ولم يرَ النور. ناهيك عن غزوة الثنائي الشيعي بيروت في 7 مايو/ أيار 2008، ما انعكس إحياءً لحالة الحرب التي لم تُعلّق إلا مع اتفاق الدوحة. كما أن الانهيار الذي يعيش اللبنانيون تفاصيله هو حرب طبقية، أعلنتها الأوليغارشية، بهدف تحميل مسؤولية الانهيار للطبقات الأدنى، مرورًا باستهداف حرس مجلس النواب المتظاهرين السلميين برصاصٍ طاول وجوههم وأعينهم من دون محاسبتهم، وصولًا إلى تفجير المرفأ واستهداف بيروت وناسها، وما تلاه من محاولات عرقلة التحقيقات أو تنحية المحقق العدلي، أو التنصّل من المسؤوليات بترشيح من تدور حولهم الشبهات للمجلس النيابي، أو تعيينهم في مواقع ومناصب سلطوية أخرى، من دون احترام لا للقضاء ولا لمشاعر المصابين والضحايا وأهاليهم.

معالجة المشكلة الطائفية بمشكلة طائفية أقل حدّةً لا يضع البلاد على سكّة الإصلاح الهادف إلى الانتقال نحو الدولة الديمقراطية

تطرح هذه المنعطفات والأحداث علينا أسئلةً كثيرة، في مقدمتها: هل أنهى اتفاق الطائف الحرب وسحب فتيل الانفجار فعلًا؟ كيف يمكن أن تكون التسوية بحاجة إلى تسوية أخرى لكي تعمل؟ وكيف يمكن اعتبارها مدخلًا للعلاج وهي بحاجة لعلاج؟ ألا يعني الأمر أن العطب مستمر في الدولة، مع دستور الطائف وصيغته، وأن محاولات تصويره علاجًا هي محاولات مأزومة وتعارض أبسط الشروط الواقعية للحياة السياسية اللبنانية؟ فمن العبث الاعتقاد أن طروحات الدولة المدنية وإلغاء الطائفية السياسية التي تكلم اتفاق الطائف عنها هي الحل المقترح لمعالجة المشكلات الطائفية، أو لمعالجة بنية الدولة الطائفية، إلا إذا كان الطائف محاولة للهرب من المشكلة الجوهرية التي تهيمن على لبنان منذ تأسيسه، وأعني الدولة الطائفية، فمعالجة المشكلة الطائفية بمشكلة طائفية أقل حدّةً لا يضع البلاد على سكّة الإصلاح الهادف إلى الانتقال نحو الدولة الديمقراطية، دولة القانون والمساواة التامة، أي الدولة العلمانية الإيجابية تجاه الأديان.

وفي التحليل، يمكن الحسم أن هذه الإشكالات وغيرها، المتأتية عن اتفاق الطائف، لا تضع قوى السلطة أمام أي حرج، فهي من أقرّته للمحافظة على مصالحها. إلا أن المستهجن أن ينزلق بعض نواب التغيير إلى مواقع السلطة لناحية اعتبار اتفاق الطائف مدخلًا ممكنًا للإصلاح ولا يحتاج إلا إلى تطبيق. خصوصًا أن الطروحات "التغييرية" التي نشأت على هامش انتفاضة 2019، وقرّرت خوض الانتخابات النيابية بشروط السلطة وقانونها، انتقلت من حركة ثورية إلى حركة تغييرية داخل المجلس النيابي، أي إلى معارضة من داخل النظام الطائفي، من دون أن تصوّب على طائفية اتفاق الطائف، نظرًا إلى وجود مواد كثيرة تحتاج إلى تغيير أو تعديل، إذا ما أراد اللبنانيون إصلاح بنية الدولة الطائفية الولادة للمشكلات، فهذا التفافٌ على شعارات الحركة التغييرية التي ترافقت مع انطلاق الربيع العربي، والتي وصل نواب التغيير إلى السلطة بوصفهم ممثلين لها بشكل أو بآخر.

ضرورة تخطّي اتفاق الطائف بالروحية وبالنص، وأن يخطو اللبنانيون نحو تصوّر جديد للدولة

يعود ما أحدث نوعًا من قلّة الثقة ببعض هؤلاء النواب إلى أن الجمهور الذي انتخبهم لم يعلم حتى اللحظة مشاريعهم الإصلاحية، سواء على مستوى القوانين أو على مستوى الدستور. فعلى سبيل المثال، لم يظهر موقفٌ واضحٌ من الاقتصاد الحر، ومن المصارف، ومن تحميل مسؤولية الانهيار؛ ولا من القوانين المذهبية للأحوال الشخصية التي تميّز بين الناس وتضطهد النساء؛ ولا من عطب المهل الدستورية التي يواجهها اللبنانيون عند كل استحقاق، سواء في الدعوة إلى تكليف رئيس الوزراء أو تشكيل الحكومة، أو عند انتخاب رئيس جديد للجمهورية، أو عند انعقاد الجلسات والتغيّب الطوعي للنواب عن الاجتماعات... إلخ. هذا قبل التشديد على ضرورة تعيين المجلس الدستوري الذي تعود إليه أحقية تفسير المواد الدستورية، وفق صيغ واجتهادات واضحة، وليس ترك التفسير لرغبات رئاسة مجلس النواب ومصالحها.

أخيرًا، لم يصادف التاريخ حركة تغييرية تلكأت عن طرح تعديلات دستورية وقانونية سائدة في النظام الذي تواجهه، خصوصًا إذا كان يعاني من عطبٍ سبّبه هذا الدستور والقانون كما في الحالة اللبنانية. أي أننا نعود، في الحالة اللبنانية، إلى ضرورة تخطّي اتفاق الطائف بالروحية وبالنص، وأن يخطو اللبنانيون نحو تصوّر جديد للدولة، يحمله مشروع سياسي قادر بطروحاته على إحداث حالة استقطاب وطنية عارمة، وإلا ستبقى آلية التغيير في لبنان زوبعة في فنجان، ولن تنجح إلا في آليات الانزلاق المستمر إلى مواقع السلطة.