اتفاق السودان... لو يخبرنا أحدهم عن البديل
الكثير مما يقوله معارضون للاتفاق المبدئي (الإطاري) الموقّع بين عسكر السودان ومجموعات سياسية يوم الاثنين الماضي صحيح: لا يحدّد موعداً لإبرام اتفاق نهائي. لا يضع تاريخاً لتعيين رئيس حكومة مدني. قد يكرّر خطأ الثقة بالعسكر. ترك الاتفاق قضايا حساسة مثل العدالة الانتقالية وإصلاح قطاع الأمن "لمزيد من المحادثات في غضون أسابيع". اقتصر التفاوض حوله على مجموعات معينة، وهمّش مكوناتٍ سياسية ومسلحة وازنة. كذلك هو "غامض وفضفاض" و"من الصعب معرفة إلى أي مدى سيحظى بالتأييد الشعبي، والمسكوت عنه يثير القلق"، على حدّ تعبير الباحثة السودانية خلود خير في تصريحها لوكالة فرانس برس. يمكن إضافة عيوبٍ كثيرة، انطلاقاً من تجربة الاتفاق السابق (2020) وقد جرى الانقلاب عليه في أكتوبر/تشرين الأول 2021. في البال أن المؤسسة العسكرية لم تتخلَّ يوماً عن الحكم بعد اتفاق 2020، واحتكرت السلطات الحقيقية في مجلس سيادة، ظلّ قائد الجيش عبد الفتاح البرهان رئيساً له ومحمد حمدان دقلو (حميدتي) نائباً له، مثلما كانا قائداً للانقلاب ونائباً له. أكثر من ذلك، لم يتوقف كثيرون عند عيب أساسي في الاتفاق المبدئي الجديد، وهو فائض السياسة فيه، أي إنه يختصر السودان بآلية انتقال السلطة من العسكر إلى المدنيين، وبمعنى مجازي هنا يختزل السودان بالخرطوم، بينما يتجاهل الكارثة اليومية الحاصلة في الأطراف، هناك في النيل الأزرق وكردفان ودارفور وعلى الحدود مع إثيوبيا، حيث القتل رياضة يومية، أكان عنفاً قبلياً أو نتيجة لحرب على الماء والكلأ والأراضي الزراعية.
لكن، هل يكفي دائماً الانطلاق من مقدمات صحيحة (شوائب الاتفاق المبدئي) للوصول إلى خلاصات صائبة (رفض الاتفاق)؟ الحال أن بعض القضايا والبلدان والأزمات لا تحتمل حلولاً جذرية. السودان حالة تُدرَّس في هذا السياق. هو أحد أفقر بلدان العالم، منهار اقتصادياً وأمنياً وسياسياً بالكامل، عسكره ومليشياته يتقاسمون أراضي البلد الشاسع الذي تنحصر سيطرة السلطة المركزية على مدنه الرئيسية حصراً. تماسك الهوية الوطنية لم يعد من المسلمات في السودان، فالنزعات الانفصالية لم تنتهِ مع استقلال جنوب السودان في 2011. في الأمس القريب، قبل ثلاثة أسابيع فقط، قرّر "المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة" (شرق) "تفعيل حق تقرير المصير"!. التجربة السياسية التاريخية التي غالباً ما يتم التغنّي بها عند الحديث عن السودان فقدت الكثير مما كانت تتمتع به، هذا إن كانت غنية فعلاً في الماضي. الأحزاب التي تستحقّ اسمها نادرة الوجود أو معدومة، والقوى الأشد تنظيماً، إلى جانب العسكر، هم جماعة النظام السابق، في النقابات والجمعيات والأوساط الدينية طبعاً. معارضة ما بعد إطاحة عمر البشير، تحالف قوى الحرية والتغيير ولجان المقاومة السودانية، لم تصمد طويلاً أمام الانشقاقات. حتميات الحزب الشيوعي وتشدّده أبعدا عنه أطيافاً مهمة من المواطنين والهيئات. أمام بلد ليست تلك الظروف سوى رؤوس أقلام للتعبير عن بؤس أحواله، ما البديل عن اتفاق ولو كان سيئاً بين العسكر وسياسيين مدنيين ومعهم فصائل مسلحة؟ جرى تجريب بديل طيلة العام ونصف العام منذ انقلاب أكتوبر 2021، اسمه الضغط الشعبي المتواصل. قتلت القوى الأمنية ومليشياتها 212 شخصاً وجرحت ستة آلاف آخرين. هل ساهم الضغط المغمس بالدماء في دفع العسكر نحو قبول التفاوض وتقديم التنازلات، نظرياً حتى الآن؟ لا يُفترض أن يكون هناك شك بذلك. هناك بديل آخر مطروح هو اتساع مدى القتل في بلد يسهل فيه وصول السلاح إلى كل الناس.
هل يجدر تصديق التزام العسكر ببنود الاتفاق على العودة إلى النظام الدستوري وانسحاب الجيش من الحياة السياسية، وتسمية رئيس وزراء مدني يتولى السلطة لمرحلة انتقالية جديدة تستمر عامين، وبناء جيش وطني واحد، ودمج قوات الدعم السريع فيه؟ للأسف، لا بديل لتجربة صدقهم من كذبهم، فليس دائماً من جرّب المجرَّب يكون عقله مخرَّباً.