اتفاقية أوكوس والخلاف مع فرنسا والصين
جاءت اتفاقية أوكوس بين الإدارة الأميركية وبريطانيا وأستراليا لتظهر الخلاف بين هذه الدول مجتمعةً وفرنسا. وليس هذا الخلاف جديدا، يعود إلى لحظة مشروع مارشال وتشكيل حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والهيمنة الأميركية على أوروبا، وتجدّد مع انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. منذ حينه، افتقدت أوروبا، بدولها المنتصرة أو الخاسرة في الحرب العالمية الثانية، دوراً مركزياً على مستوى العالم، حيث برز حينها كل من الاتحاد السوفييتي وأميركا قطبين عالميين.
حاولت ألمانيا وفرنسا، أكثر من مرّة، تشكيل جيش مشترك أو جيش أوروبي، آخر تلك المحاولات تمّت في سلوفينيا، وبهدف تشكيل قوة عسكرية أوروبية، وجاءت ردّا على التجاهل الأميركي للاتحاد الأوروبي، وقيامها بالانسحاب وقبلها بعقد اتفاقية مع حركة طالبان من دون التشاور والتنسيق مع "الناتو" ودوله. أوروبا الرافضة للتجاهل الأميركي، لم تعد ترى الحلف حلفاً حقيقياً. تتفق أميركا مع أوروبا في ذلك. ولهذا كثيراً ما تلكأت أوروبا في دفع المستحقات المالية لحاجات "الناتو" من الأموال.
وقد أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن، مع رئيسي وزراء أستراليا سكوت موريسون وبريطانيا بوريس جونسون، اتفاقية أمنية وعسكرية وتقنية مشتركة، وتتضمّن صفقة لتصنيع غواصات لصالح أستراليا، وفسخ صفقة مماثلة مع فرنسا؛ الصفقة هذه تتألف من غواصات تعمل بالدفع النووي، ويُفترض، وفقاً للخبراء، أنها ستكون قادرةً على حمل صواريخ نووية. لقد أُعلن عن الصفقة من دون التشاور مع أوروبا وبالتحديد فرنسا. شعرت الأخيرة بالإهانة و"بالصفعة"، حيث سرقت منها أميركا صفقة بأكثر من 50 مليار دولار.
تنافس حقيقي بين الحلف الجديد و"الناتو" وفرنسا
وستنقل الاتفاقية هذه التقنية النووية، لأوّل مرّة ومنذ 1958، خارج أميركا وبريطانيا، وبوساطتها ستتعزّز العلاقات بين هذه الدول، وفي منطقة تعدّ مهمةً لصالح فرنسا، ولأوروبا علاقات تجارية معها تزيد عن 12 تريليون دولار. إذا، هناك تنافس حقيقي بين الحلف الجديد و"الناتو" وفرنسا. عدا التنافس السابق، الاتفاقية في وجهتها الأساسية ضد الصين التي أعلنت أن الصفقة تهدّد الاستقرار الإقليمي، وتشجّع على سباق التسلح. وبالتالي، لا تستهدف السلام الإقليمي والاستقرار، كما ذكرت الدول الثلاث الموقعة على الاتفاقية التي تأتي كاستكمالٍ لاتفاقية "كواد" بين أميركا واليابان والهند وأستراليا.
إذاً، هي بداية حربٍ باردة حقيقية، ووفقاً للتصريحات الصينية الرافضة "أوكوس" ضد أستراليا، وتهديدها بضربةٍ نووية في حال حدوث حربٍ في تلك المنطقة، فإن أميركا التي حدّدت هدفها في مواجهة الصين، ومنذ أكثر من عقد، وبريطانيا الخارجة منذ عامين من الاتحاد الأوروبي، وأستراليا المنضمة لهما، تستعد لمواجهة الصين. وقد أثار اهتمام متابعي الاتفاقية قول مسؤولي الدول الثلاث إن التحالف الجديد بُني بين دول الديمقراطية البحرية، ما يتضمّن دلالة واضحة على أنها ضد النظام التسلطي في الصين، وهي رسالة إلى كل من اليابان والهند وكل حلفاء أميركا في المحيطين، الهندي والهادئ، أن أميركا جادّة في مواجهة الصين.
العالم يتجه نحو "انفلاش" في تعدّد الأقطاب المهيمنة على العالم
أصبحت التحليلات التي تتناول أميركا تؤكد أنها تشهد انكفاءً وانسحاباً عالمياً، وأن العالم يتجه نحو "انفلاش" في تعدّد الأقطاب المهيمنة على العالم. تجاهل أميركا وحلفائها الاتحاد الأوروبي، ومصالح بلدانه في تلك المحيطات، يوضح أن أميركا ما زالت هي المهيمنة عالمياً على الرغم من أزماتها، وتحاول مواجهة الصين بشكلٍ حازم ومن دون تردّد.
هناك برباغندا تشير، ومن دون توقف، إلى أن الصين تكاد تتغلب على أميركا، وتكاد تصبح الدولة الأولى في العالم، وأن أميركا في طريقها إلى "التفكك". نقول هذه برباغندا؛ فليس هناك من مجال لمقارنة مستويات الدخل بين البلدين، حيث يشكّل دخل المواطن الصيني 20% من دخل نظيره الأميركي، ولا تزال الصين تضع مشاريع نهضوية لإنهاء حالة الفقر لمئات الملايين من الصينين، وتكافح، بشكلٍ صلب، من أجل القفز بالتطور الصناعي ليعادل الأميركي أو الأوروبي، وتعمل على إشادة طريق الحرير وإقامة علاقاتٍ دوليةٍ كثيرة من أجل ذلك. أقصد أن أميركا وحلفها الجديد يستهدفان جرّ الصين إلى سباق التسلح، أو حروب هنا وهناك، وتبتغي من ذلك حرف التطوّر النهضوي الكبير في الصين نحو الصناعة العسكرية. هنا، لا يمكن تجاهل أن سباق التسلح بين الاتحاد السوفييتي وأميركا في أثناء الحرب الباردة لعب دوراً كبيراً في تقويض الاتحاد. الصين من دون شك تعي التحدّيات الجديدة، ودورس الحرب الباردة، وأهداف الدول الثلاث، وستتجنّب بكل الطرق أيّ عزلةٍ دولية تحاول أميركا وحلفاؤها إحكامها ضد مصالح الصين الوطنية والعالمية.
تجاهل أميركا وحلفائها الاتحاد الأوروبي، ومصالح بلدانه في تلك المحيطات، يوضح أن أميركا ما زالت هي المهيمنة عالمياً
اتفاقية "أوكوس" ستليها اتفاقية تجارية ضخمة بين الدول الثلاث، وهي ليست مؤقتة، وإنما ستكون لعقود ولصالح الأجيال المستقبلية، وهناك حلفاء أميركا الآخرون في المُحيطين، الهندي والهادئ. تثير الاتفاقية قلق كل من الصين وروسيا من ناحية، وقلق دول الاتحاد الأوروبي من ناحية ثانية، وعدا أن الأخيرة ضعيفةٌ تجاه التحالفين المذكورين، فهي لن تذهب نحو الصين أو روسيا، وقد تشهد خروج تركيا من حلف الناتو، أو حدوث تراجع كبير في العلاقات بين دول الحلف الأطلسي. أميركا غير راغبة بتطوير هذا الحلف، والقضية لا تكمن في الرئيس ترامب الذي همش أوروبا و"الناتو"، بل في التوجه الأميركي إلى تغيير قواعد التحالفات العسكرية، كما أوضحت السطور أعلاه.
تقول الاتفاقية الجديدة بضرورة التخفيف من البرباغندا الأخرى التي تقول إن أميركا في طريقها إلى الانكفاء الداخلي، وإن العالم سائر نحو سيطرة الدول التسلطية أو الشعبوية في أوروبا والعالم. طبعاً ليست أميركا معنية بنشر الديموقراطية، كما أشار بايدن حينما تحدّث عن الإخفاق في أفغانستان. وقد جاءت إشارته تلك لتسهيل قبول الانسحاب والتخفيف من المساءلات في المؤسسات الأميركية السياسية، بينما حينما غزت أميركا في 2001 أفغانستان أو العراق في 2003، كانت تؤكّد على نشر الديمقراطية والحريات، وبناء الدول الحديثة، وسواه.
أميركا وحلفها الجديد يستهدفان جرّ الصين إلى سباق التسلح أو حروب هنا وهناك
تضع اتفاقية أوكوس أوروبا في خانة ضيقة، فإذا كانت تفكّر، منذ عقود، ببناء جيشٍ أوروبي، والاستغناء عن أميركا في إطار حلف الناتو، فالآن أميركا تهمش، بوضوح شديد، ذلك الحلف، وربما تندفع أوروبا نحو فضّ الشراكة التاريخية مع أميركا. الفكرة الأخيرة هذه لا يمكن الوصول إليها سريعاً، وربما تؤكد ردود الفعل الروسية والصينية "العنيفة" ضد "أوكوس" ضرورة بناء علاقات جديدة، وعلى أسس جديدة بين دول "أوكوس" وأوروبا. أميركا وبريطانيا وأستراليا تتجه الآن نحو تخفيف التوتر مع فرنسا وأوروبا، والأخيرة ليس لها بدّ من المسارعة نحو التخفيف ذاك.
إذا، هي الحرب الباردة مع الصين، ومحاولة استنزافها في سباق التسلّح وعزلها دولياً. السؤال كيف ستتلافى الصين الحرب هذه، وهل في مقدورها بناء تحالفاتٍ قويةٍ مع روسيا المعاقبة أوروبياً وأميركياً أو أوروبا. تشهد العلاقات الدولية، ولا سيما بين الأقطاب المهيمنة على العالم، تصعيداً كبيراً، ولكنها لن تتجه نحو الحرب في هذه الآونة، وهذا يقتضي ضمان مصالحها العالمية. والسؤال: كيف ستتمكّن هذه الدول المتناقضة في مصالحها وسياساتها من تخفيف التوتر، والعمل من أجل الاستقرار العالمي، وعكس ذلك إن تعمقت الخلافات؟ هذا هو السؤال العالمي بامتياز بعد اتفاقية أوكوس.