إيحاءات جنسية واستعمارية

20 يناير 2015
+ الخط -
استطاعت صحيفة شارلي إيبدو الفرنسية، وقبلها مجلة الفليمنغ روز الدنماركية، اللعب بالسيكولوجيا العربية والمسلمة، فأصبحت رسوماتهما القبيحة أهم من قضايا الظلم والاستعمار والاحتلال التي تتضمن، بل وتسبب عملياً، إساءة وضرراً إنسانياً أفدح بكثير من محاولة فاشلة لخرق محرمات المعتقدات والكرامة العربية والمسلمة. وهذه فاشلة بالمعنى العميق للخروق الإنسانية، عدا عن أن بشاعتها ترتد على مرتكبيها، وكان الأجدى إهمالها، خصوصاً أنها تستهدف إثارة الغرائز والأحاسيس، خدمة لهدف سياسي هو إلهاء الشعوب المظلومة وتصويرها بأنها "غير عقلانية"، تبريرا لجرائم ارتكبت وتم ارتكابها، ويستمر ارتكابها ضد هذه الشعوب.
في حالة الرسوم الدنماركية، انكشفت اللعبة وبسرعة، فقبل أشهر من نشرها، نشر محرر الصفحة الثقافية، روز بايب، في أغسطس/آب عام 2005 مقابلة مع الصهيوني الأميركي المتطرف، دانييل بايبس، يحذر فيها "أوروبا النائمة" من خطر المسلمين عليها. وقدمه روز على أنه "خبير في الإسلام"، وتجاهل أن الأخير كان يقود حملة مكارثية في الجامعات الأميركية ضد الأكاديميين العرب والأميركيين، إذا انتقد أحدهم الصهاينة وتحدث عن الحقوق الفلسطينية في قاعات التدريس وخارجها.
وقد مثل قرار صحيفة "شارلي إيبدو" نشر الرسوم الدنماركية إحدى محطات انعطافها إلى اليمين، ليس فقط ضد المسلمين، بل تجاه القضية الفلسطينية، فالمهم أن نشر الرسوم نجح في مسعاه، باستفزاز المسلمين، وأصبحت تلك الرسوم العنوان الأهم، في وقت كانت أميركا تمعن في جرائمها في العراق وأفغانستان، وفي دعمها آلة الدمار الإسرائيلية. ولم تكن هذه الأجندات لتنجح، لولا الخلل في التعبئة القيمية والسياسية لدينا، والتي ساهمت فيها مناهجنا التعليمية، والمرجعيات الدينية والأنظمة وتنظيمات الإسلام السياسي، بمنطلقات وأهداف مختلفة، لكن النتيجة كانت أن أصبحت أجيال شابة ضعيفة أمام الاستفزاز وأمام إغراء المنظمات المتطرفة التي تمنحها قوة وهمية على قوى الطغيان، فتتحول من ضحية إلى مجرمة.
ما أسرع أن تلتقط دوائر صنع القرار الغربية لحظة تحول الضحية إلى مجرم، لتغسل جرائمها وتباشر التخطيط لارتكاب جرائم جديدة، وهي على وعي تام بأن الرسوم غدت رمز امتهان الكرامة العربية والمسلمة عبر عقود الاستعمار والاحتلال، وليس من انتهاكات إنسانية في إجبار الجنود الأميركيين المحتجزين في سجن أبو غريب على المثول في أوضاع جنسية تحت التهديد، أمام عدسات الكاميرا، لتسليتهم.
وقد كشف أكثر من تحقيق صحافي، جديدها في "نيويورك تايمز" أن الأخوين كواشي تأثرا جداً بصور التعذيب النفسي والجسدي للموقوفين العراقيين، ومسّتهم في العمق، ففي مخيلتهم كانت هذه نظرة الغرب إليهم، لا احترام لكرامتهم الإنسانية ولا لرجولتهم. ويركز الحوار الجاري في الغرب على رفض المسلمين فكرة رسوم للنبي من دون التعامل مع الطبيعة الجنسية للرسوم نفسها، والتي تنفي عنها صفة نقد الأديان، بل هي تعبير عن نظرة مهينة إلى العرب والمسلمين، بداية بأهم رموزهم الدينية. أي أن الرسوم تعيد، بأقبح صورة، إنتاج التعبيرات الاستشراقية الاستعمارية، والتي لا ترى الرجل الشرقي سوى مخلوقا جنسيا وضيعا، يتوجب إخضاعه، فلا كرامة أو قيمة لحياته، ويبلع شبابنا الطعم، إذ إنها تستفز شعوره بالدونية، وكلنا ندفع ثمن انجرارنا إلى اللعبة.
لكن ردود فعلنا تخدم هذه المنظومة الاستشراقية التي دائماً وأبداً تخدم التبريرات الاستعمارية والصهيونية، إنها في صراع حضاري ضد تخلف بدائي ووحشي، والنتيجة أن يندفع شابان إلى قتل صحافيين، وشرطي مسلم، وكأنهما في ذلك ينتقمان لكرامتهما وحقوق الشعوب المهدورة.